تيار المقاومة والتحرير - الموقع الرسمي

قوَات العاصفة- شبكة الجرمق

الصفحة الأساسية > الشؤون القومية > المحددات الموضوعية لدور مصر فى الوطن العربى

المحددات الموضوعية لدور مصر فى الوطن العربى

د.عصمت سيف الدولة

الاثنين 24 نيسان (أبريل) 2017

(1) مدخل

ادوار ومصالح:

1- لكل صاحب مصلحة رأى فى دور مصر فى العالم العربى . الدور الذى أدته أو الدور الذى تؤديه أو الدور الذى عليها أن تؤديه أو الدور الذى لاينبغى عليها اداؤه . ويحاول كل قادر دفع مصر أو جرها الى حيث يرى تحقيقا لمصلحته . البعض اتفاقا ، والبعض نفاقا ، والبعض تثبيطا ، والبعض توريطا ، والبعض حبا ، والبعض حربا يجرى كل هذا فى عصر قصرت فيه المسافات بين اقطار العالم ، وامتدت فيه المصالح حتى أصبحت عالمية ، واصبحت الحصانة دون التأثر بما يحدث فى اطراف الارض أو الكف عن التأثير فيه مستحيلا أو يكاد أن يكون مستحيلا . ويجرى كل هذا فى ظل قوتين عالميتين متصارعتين * على اقتسام الارض عنوة أو وفاقا . ويجرى كل هذا فى العالم العربى الذى تمزق دولا، وسلب أرضا ، وتحول الى ساحة صراع بين المصالح والقوى العشائرية والطائفية والشعوبية والاقليمية والصهيونية والدولية ، وهو صراع بارد حينا ، ملتهب حينا آخر لكنه فى كل حين مسلط على العقل العربى يحاول بالكلمات والنظريات والافكار والاداب والفنون ، بكل اغراء وبكل اغواء ، أن يصوغه فكرا ليسخره فعلا ، ليؤدى عنه طوعا ما تقصر عن ادائه وسائل الاكراه . ومن بين مايصوغونه افكار متباينة عن دور مصر فى العالم العربى .

فى هذا الواقع المعاصر تسند الى مصر أدوار متعددة بقدر تعدد القوى ، مختلفة بقدر اختلاف البواعث، متناقضة بقدر تناقض المصالح ، مترددة فيما بين أقطاب لاتلتقى : فيما بين الحلم والعلم . فيما بين الممكن والمستحيل . فيما بين الماضى والمستقبل. ولايصح فى الواقع أو فى العقل اسناد كل تلك الادوار معا الى مصر الواحدة فى زمان واحد .
كما لايجدى ، وقد لايكون ممكنا . تتبع الادوار التى قامت بها مصر فى العالم العربى مضمونا وتقييما لنستخلص منها معيارا واحدا للتقييم اذ لكل زمان أحكام . وكل دور فى زمانه كان حصيلة مؤثرات ذاتيه وموضوعية ، محلية وعربية ودولية لايجوز تقييم مضمونه خارج اطارها ، وهى بعد أكثر وأخفى من أن تحصى وتعرف. ثم انه اذا صح ان التاريخ لايعيد نفسه وان ثمة جديدا تحت الشمس كل يوم وان كل شئ مؤثر ومتأثر متحرك متغير ابدا ، وهو عندنا صحيح . فان قياس المستقبل على الماضى خطأ منهجى غير موثوق النتائج ، ذلك لانه يلغى دور البشر صناع المستقبل .ونحن نعتقد انه من العبث أن يدور حديث حول دور أدته مصر فى العالم العربى لمجرد محاكمته الا أن يكون المتحدثون مؤرخين ولسنا منهم . انما المجدى أن يدور الحديث حول دور أو أدوار أدتها مصر فى العالم العربى كمصدر خبرة تاريخية قد تساعد على معرفة أو توقع الدور أو الادوار التى تؤديها مصر فى المستقبل. اذ المستقبل وحده هو المجال المفتوح لارادة الانسان .

كل هذا لايعنى أن مصر قد اختارت كل الادوار التى اسندت اليها فى الماضى ، أو انها ستختار ماتشاء من ادوار تؤديها فى المستقبل ، أو حتى انها قادرة على اداء كل الادوار التى تختارها . ليست مصر أم الدنيا كما نحب أن نسميها مجازا عن تقديرنا الكبير لها ، بل مصر جزء بسيط من هذه الدنيا المليئة بالامصار والادوار التى كثيرا ما ألغت دور مصر أو حدت من مجاله أو حملت مصر على أداء أدوار فأدتها مرغمة .

لهذا كله لانعتذر للذين يتوقعون أن يكون موضوع هذا الحديث ذلك الدور الذى اسند الى مصر فى العشر سنوات الاخيرة واسبابه وأبطاله وآثاره التى هزت العالم العربى هزا واشاعت فيه اضطرابا مزلزلا أدى الى انهيار مفاهيم ونظم وقوى كانت تعتبر من الثوابت التى لاتنهار ، ومزق أواصر كان يظن انها لاتنفصم . لا. لن نتتحدث عن هذا الدور أو عن أى دور غيره الا فى نطاق محاولت اكتشاف المحددات الواقعية الموضوعية الثابته نسبيا لدور مصر فى العالم العربى . فعلى ضوء هذه المحددات وحدها ـ ان وجدت ـ تمكن معرفة الاجابات الصحيحة على كثير من الاسئلة التى تشغل العقل العربى عن دور مصر فى العالم العربى . لماذا أدت هذال الدور أو ذاك فى الماضى ؟. وماهو الدور المتوقع ان تؤديه فى المستقبل؟. ولماذا يتغير دور مصر فى العالم العربى تغيرا حادا من حين الى حين ؟ ماهو الدور الذى ينبغى لها أن تؤديه ؟. وماهو الدور الذى تستطيع اداءه ؟ وماهو الدور الذى لاينبغى لها اداؤوه ولو استطاعت ؟ ثم أين ومتى وكيف ولماذا يكون دور مصر فى العالم العربى ؟ .. الى آخره ..

فلنبحث عن تلك المحددات . فى تاريخ مصر أولا ..

(2) المحدد الجغرافى

عن الماضى الاقليمى:

2- قبل أن توجد أية دولة فيما يسمى الان العالم العربى ، بل قبل أن توجد الدول جميعا كانت مصر موقعا جغرافيا يسمى مصراييم . وكانت فيما بين الخليج والمحيط بمثابة واحة كبيرة من الارض الخصبة ذات المناخ المعتدل يجرى فيها الجزء الشمالى من النيل بدون عوائق او مساقط موفرا لها أكبر قدر من انتظام اسباب الرى والزراعة والنقل والمواصلات . تطل على بحرين عند ملتقى قارتين فكانت ، مثل كثير من أودية الانهار ولكن بدرجة أفضل، موطنا نموذجيا للحياة المستقرة على يسر النماء الزراعى والبناء الحضارى والتبادل التجارى مع ماحولها من أقاليم . فكانت بهذا كله ذات قوة جذب هائلة للجماعات القبلية الجائلة فيما يليها شرقا وغربا وجنوبا تغزوها أو تحاول أن تغزوها لا لتنهبها ثم ترتد عنها كشأن الغزاة فى العصور القبلية بل لتستولى عليها وتستقر فيها .

حينما غزتها الجماعات القبلية الوافدة من الشرق بقيادة من اطلق عليهم المصريون اسم ” الملوك الاجانب” او “حقا خاسوت” الذى حرف فى اللغة الاغريقية الى” هكسوس” ، عام 1675 قبل الميلاد استولوا عليها واستقروا بها قرنا ( حتى عام 1567 قبل الميلاد) وكانت منهم أسرتان حاكمتان هما الاسرة الخامسة عشرة والاسرة السادسة عشرة وثلاث عشرة ملكا فرعونا أولهم ششى وآخرهم ابيبى الثالث.

حينما غزتها الجماعات القبلية الوافدة من الغرب من نسل يويو واوا الليبى عام 1950 قبل الميلاد استولوا عليها واستقروا فيها قرنين ( حتى عام 730 قبل الميلاد) وكانت منهم اسرتان حاكمتان هما الاسرة الثانية والعشرون والاسرة الثالثة والعشرون وأربع عشرة ملكا فرعونا أولهم شاشانق الاول وآخرهم اوسركون الرابع..

وحينما غزتها الجماعات القبلية الوافدة من الجنوب عام 751 قبل الميلاد استولوا عليها واستقروا فيها قرنا ( حتى عام 656 قبل الميلاد) وكانت منهم اسرة حاكمة هى الاسرة الخامسة والعشرون وخمسة ملوك فراعنه: بغنجى وشاباكا وشيتاكا وطهرقا وتانون أمانى .
وحينما غزتها التجمعات القبلية الوافدة من فارس تحت قيادة قمبيز عام 525 قبل الميلاد استولوا عليها واستقروا فيها اكثر من قرن ( حتى عام 404 قبل الميلاد) وكانت منهم أسرة حاكمة هى الاسرة السابعة والعشرين وخمسة ملوك فراعنة أولهم قمبيز وآخرهم دارا الثانى. وبعد أن طردتهم ثورة قادها الفرعون آمون حر لم يلبثوا حتى عادوا اليها قبل أن يمضى نصف قرن فغزوها عام 341 قبل الميلاد واستولوا عليها واستقروا فيها قرنا آخر ( حتى عام 232 قبل الميلاد ) وكانت منهم اسرة حاكمة هى الاسرة الحادية والثلاثون وثلاثة ملوك فراعنة اولهم ارتخشاشا الثالث وآخرهم دارا الثالث .
ثم جاء البطالمة فاستقروا فيها ثلاثة قرون ، ثم الرومان فاستقروا فيها أربعة قرون ، ثم البيزنطيون فاستقروا فيها نحو قرنين ونصف ثم العرب عام 640 ميلادية فاستقروا فيها وتعربت جملة ولم تزل.

3- وهكذا فرضت جغرافية اقليم مصر على مصر مفهوما مصريا لأمن مصر .أمن وجودها وحدودها وأمن مبادلاتها ومواصلاتها . مؤداه : بما أن مصر ـ جغرافيا ـ ذات قوة جذب للغزاة من ناحية ، وبما أنها توفر لمن يغزوها أسباب الاستقرار فيها . من ناحية ثانية ، فان المواقع المناسبة للدفاع عن مصر تقع خارج حدودها الجغرافية فى جميع الاتجاهات شرقا وغربا وجنوبا وشمالا . أو بصيغة أخرى ان خطوط الدفاع عن مصر تقع فيما يجاورها من أقاليم بعيدا عن حدودها . فيمكن القول أن جغرافية أقليم مصر ومايحيط بها من أقاليم قد فرضت على مصر أن تقوم فيما يحيط بها بدور دفاعى عن ذاتها .

4- ويكاد تاريخ مصر الفرعونية أن يكون تأريخا لهذا الدور . وأغلب ماعنى ملوك مصر الفراعنة بتسجيله حفرا على جدران المعابد هو قصص خروجهم الى جميع الاتجاهات، لمواجهة التجمعات القبلية التى تجهز نفسها لغزو مصر، وضربها ضربات وقائية مبكرة قبل أن تقترب منها .
أما فى الشمال فنقرأ على جدران معبد الكرنك أنه بعد أن استطاع الفرعون أحمس الاول( 1570ـ 1546 قبل الميلاد ) طرد الهكسوس من مصر طردهم من جزيرة كريت وأراد أن يكرم جدته الملكة ” اعح حوتب ” للدور العظيم الذى قامت به فى تعبئة الجيوش وتحريضها على القتال فيسميها ملكة كريت ونقرأ على جدران معبد الرمسيوم فى الاقصر ماأمر بحفره الفرعون رمسيس الثانى (1990ـ 1223 قبل الميلاد) ثبتا للبلاد التابعة لمصر فنجد من بينها قبرص وكريت .

أما فى الغرب فمنذ بداية التاريخ المكتوب تذكر الاثار أن فرعونا من الاسرة الثانية اسمه خع سخم أو حورس ، لايعرف احد تاريخ حكمه، قد خرج من مصر لمقاتلة القبائل الليبية التى تهددها . وتحكى بردية سنوهى مأساة اغتيال الفرعون العظيم امنمحات ( 1991 ـ 1961 قبل الميلاد ) فتقول أن اعداءه تمكنوا منه وقتلوه منتهزين فرصة غياب ابنه وولى عهده وقائد جيوشه سنوسرت . اذ كان قد أرسله قائدا لحملة للقضاء على التجمعات القبلية التى تجهز نفسها لغزو مصر فى قواعدها فى ليبيا . وتحكى الاثار أن امنحوتب الاول فرعون مصر( 1546 ـ 1526 قبل الميلاد ) قد أرسل جيشا كبيرا بقيادة أحمس ابانا الى ليبيا لتشتيت القبائل المتجمعة هناك تستعد للسير الى مصر . وعلى جدران معبد الكرنك يسجل الفرعون سيتى الاول ( 1303 ـ 1290 قبل الميلاد ) قصة مثيرة عن خطر مزدوج المصدر من الشرق والغرب . فقد اجتاحت الشرق قبائل هندوـ اوربية فهاجرت قبائلها مطروده بحرا ولجأت الى شاطئ شمال افريقيا . فلما أن تجمعوا هناك تعرضوا لقوة جذب النماء والرخاء والاستقرار فى مصر فاتجهوا اليها فخرج اليهم الفرعون سيتى الاول وطاردهم .

وتشهد بقايا الاوانى الفخارية التى اكتشفت فى الخرطوم وغرب السودان وفى قريتى البدارىفى صعيد مصر (اسيوط) أن علاقة مصر بالجنوب ترجع الى العصر النبوليتى ( العصر الحجرى الحديث) أى الى ماقبل 4000 قبل الميلاد . وعلى صخور جبل الشيخ سليمان على مقربة من بوهن امام وادى حلفا نقرأ نبأ وصول جيوش مصر بقيادة الفرعون انى الثانى من ملوك الاسرة الاولى لتأمين طرق التجارة مع الجنوب. ويحكى لنا الرحالة الفرعون حر خوف فى تاريخ حياته المسطور على واجهة قبره فى اسوان انه صاحب حملة قادها أبوه الى الجنوب وأنه قاد هو نفسه ثلاث حملات متتالية بأمر من الفرعون بيبى الاول (2402 ـ 2377 قبل الميلاد ) وبينما ذهبت الحملات الى بلاد لم يعرفها أحد من قبل ـ كما قال ـ خصص الحملة الثالثة التى تمت فى عهد ويبى الثانى لنبأ عثوره على قزم حى وابلاغه فرعون النبأ ويورد رسالة الفرعون اليه أن ” تعالى الى الشمال. تعالى سريعا الى القصر . واحضر معك هذا القزم الذى جئت به من أرض الارواح حيا سالما وفى صحة جيدة ليرقص للاله ” . ولم يكن ذاك غريبا فقد كان بى الثانى طفلا . ولكن الفرعون الطفل قد أصبح فرعونا شابا فأدرك أن دور مصر فى الجنوب ليس لهوا ولعبا بالاقزام بل مسألة حياة أو موت فمنه يجرى شريان حياة مصر (النيل ) فأرسل الى الجنوب قائده بيبى نخت ليؤدى دورا آخر ذكره القائد فى سجل تاريخ حياته المحفور فقال:” ارسلنى جلالة مولاى لاؤدب بلاد ارثت فقمت بما جعل مولاى يثنى على وقتلت منهم عددا كبيرا ، من بينهم أبناء الزعماء ورؤساء المحاربين وأحضرت منهم أسرى الى القصر . كان عددهم عظيما لانى كنت شجاعا ومعى جيش كبير من الجنود الاشداء ” .

وحيث توجد كرمه فى السودان أسس امنمحات الاول ( 1991ـ 1962 قبل الميلاد ) مركزا للتجارة تحرسه قوة مرابطة فى حصن شيده فى سمنه جنوبى الشلال الثانى ثم توالت الحصون فأصبحت سبع عشرة حصنا ترابط فيها قوات تحرس النيل وتدافع عن مصر عند خطوط على بعد مئات الكيلومترات من حدودها ، ومع ذلك فليست العبرة بالسن دائما فما أن تتعرض حصون مصر وخطوط تجارتها فى الجنوب لخطر ناشئ حتى يخرج الى حيث موقع الخطر الفرعون الصغير امنحوتب الاول ( 1546 ـ 1526 قبل الميلاد ) ويعيد الامن الى مصر بمعارك ناجحة فى السودان . أما الفرعون تحوتمس الاول ( 1525 ـ 1495 قبل الميلاد ) فقد مد حدود حكمه الى السودان وعين حاكما له فرعونا أسماه الابن الملكى لكوش وأصبح محرما على من هم جنوب تلك الحدود عبورها الى الشمال . وحينما جاول امراء قبائل كوش تحدى تلك الحدود هزموا واستقبل تحوتمس قادة جيوشه المنتصرة وكرمهم فى اسوان . ثم تحوتمس الثالث ( 1490 ـ 1436 قبل الميلاد ) الذى قاد بنفسه حملة الى السودان وبقى هناك سبعة أشهر يقاتل القبائل التى تهدد مصر وتجارتها ولم يعهد بذلك الى أحد من قواده بالرغم من أنه قد قارب السبعين من عمره . أما الفرعون امنحوتب الثالث ( 1436 ـ 1411 قبل الميلاد ) فأن تمثاله فى قرية النجعة على مقربة من شندى شمال الخرطوم شاهد على أنه كان يدافع عن مصر .. الى.. آخرهم..

أما عن الشرق فقد خرج الى الشرق قائدا منتصرا وعائدا الملك الفرعون ساحورع من الاسرة الخامسة
( 2553ـ 2539 قبل الميلاد ) وبيبى الاول من الاسرة السادسة ( 2402 ـ 2277 قبل الميلاد ) الذى طاردت قواته بقيادة البطل العسكرى ” ونى” التجمعات القبلية ثم دحرتها عند جبال الكرمل . وامنمحات الاول( 1991 ـ 1961 قبل الميلاد ) من الاسرة الثانية عشرة الذى أراد أن يحصن حدود مصر الشرقية نهائيا فبنى على طول الحدود سورا فرعونيا عظيما لم يصمد طويلا فاضطر أحد خلفائه سنوسرت الثالث (1879ـ1841 قبل الميلاد ) أن يطهر كل شرقى البحر الابيض المتوسط وأن يترك هناك فصائل مقاتلة تجوب الشواطئ وتراقب الطرقات وتنذر مبكرا بأى غزو لمصر . وأحمس ( 1570ـ 1546 قبل الميلاد ) يطرد الهكسوس من مصر ويتعلم من الجغرافيا فيعلم أنهم لن يكونوا قد خرجوا من مصر الا اذا خرجوا من فلسطين فيخرجهم منها . فتعلم الجغرافيا فراعنة مصر أن هذا البعد لايكفى فيأتى تحوتمس الثالث ( 1490ـ 1436 قبل الميلاد ) وما أن يصل اليه نبأ وصول قوات قادش مدينة مجدو فى سورية حتى يعتبر ذلك اعتداء على حدود أمن مصر فيخرج اليهم ويقاتلهم ويدمرهم فى مدينة نوخاخش المجاورة لمكان حلب الحالية . ويواصل حملاته دفاعا عن أمن مصر التى بلغت ستة عشرة حملة مطاردة أوصلته الى الفرات . ويفكر ذاك الفرعون العبقرى فيما سيصنعه التاريخ بعده بعشرات القرون . أن التآخى مع الجيران وليس القهر هو الذى يحفظ أمن مصر . فيجمع أبناء القبائل التى قهرها وأولياء العهود فيها ويحملهم الى مصر ويحشدهم مع أبنائه فى قصوره ويؤاخى بينهم ليتعلموا جميعا أن أمن مصر هو أمن جيرانها وأنها لاتغزوهم الا مضطرة فان تحالفوا على التعاون لرد المخاطر عنهم جميعا فهذا يكفى مصر أمنا . وقد عاد أولياء العهود اخوة وأصبحوا ملوكا وقادة وحالوا دون أن تكون مواطنهم مراكز تجمعات تهدد مصر فنعمت مصر بفترة طويلة نسبيا من الامن والهدوء والرخاء والتقدم الحضارى الذى تجاوز أمور الدنيا الى امور الدين فأنجبت أمنونحتب الرابع ( 1370ـ 1349 قبل الميلاد ) الذى أنهى عبادة آمون وأشاد بعبادة آتون ( الشمس ) وحمل لقب اخناتون فكان أول الموحدين من فراعنة مصر .. وفى عهده اكتمل مفهوم أمن مصر فهو ادراك لمواطن الخطر عليها فى مواقعه وليس عداء لمواطنى تلك المواقع . فحين تجمع على حدود مصر الشرقية جل مواطنى سورية وفلسطين يريدون دخولها وتبين القائد الفرعونى ( حور محب ) أن جيوش مملكة خيتا قد غزت ديارهم وطردتهم وطاردتهم حتى حدود مصر فتح لهم الحدود وآوتهم مصر وعقدت معهم مايمكن أن يسمى معاهدة دفاع مشترك فكونوا جيشا مشتركا خرج الى حيث مواقع الخطر المشترك وقضى على جيوش خيتا . فلما تحررت سورية وفلسطين أمنت مصر . وكانت تجربة علمت الجميع مايمكن أن نسميه المصير المشترك مدخرين تعبير وحدة المصير الى مرحلة تاريخية لاحقة . كذلك حين عادت جيوش مملكة خيتا الى الاستعداد لغزو مصر وجمعت له من استوردهم قائدهم المسمى( موتللى) من جند مرتزقة من سكان بحر ايجه ( اليونان ) وامارات آسيا الصغرى ( تركيا ) ، وخرج اليهم رمسيس الثانى (1290ـ 1223 قبل الميلاد ) كادت الدائرة تدور على جيش الفرعون المصرى وفر كثير من جنده وباتت الهزيمة وشيكة وأصبح مصير مصر ذاتها معلقا على نجدة من الحلفاء ، تقدم لنجدتها ألوف من شباب فلسطين مكونين تشكيلا عسكريا يطلق عليه فى الاثار اسم ثيارونا ويعنى فرقة الشبيبة ، وناصروا رمسيس الثانى فانتصر وانقذت مصر وفلسطين وسورية معا . وحينما بدأ الخطر الاشورى يدق أبواب سورية كرر المصريون والفلسطينيون التجربة الناجحة فشكلوا جيشا مشتركا بقيادة الفرعون المصرى ” تف نخت ” ( 730 ـ 720 قبل الميلاد ) وخرجوا معا فى هذه المرة للدفاع عن سوريا دفاعا عن فلسطين ومصر .. وحين انهزموا استولى الاشوريون على سورية وفلسطين ومصر أيضا ..

5- نستطيع ، بدون خسارة كبيرة ، أن نسقط من حديثنا عن دور مصر فى العالم العربى قرون الحكم البطلمى والرومانى والبيزنطى جميعا ، فخلالها جميعا الغى دور مصر وأصبحت مجرد أداة تؤدى الدور الذى يختاره لها من لهم السيطرة والحكم . ونصل الى الفتح العربى عام 640 ميلادية ..

6- لم يكن غريبا أن يتم الفتح العربى لمصر بسهولة . ذلك لان البيزنطيين لم يتعلموا من الجغرافيا ماتعلمه الفراعنة . فقد تم الفتح العربى لسورية عام 636 ميلادية .وهو الانذار الذى ماكان أى فرعون مصرى يسمعه حتى يعبئ قواته ويخرج من مصر الى حيث تتجمع النذر لتؤدى مصر دور الدفاع عن ذاتها فى المواقع التى حددتها الجغرافيا . لم يفعل البيزنطيون هذا بل تحصنوا فى بابليون جنوبى القاهرة وهم يسمعون نبأ دخول عمرو بن العاص على رأس أربعة آلاف مقاتل لاغير من العريش حتى الفرما ( شرق بورسعيد حاليا ) حتى بلبيس لتدور أول معركة بينهم فى عين شمس ضاحية القاهرة .. فطلب عمرو بن العاص مددا . وبينما عاد البيزنطيون الى حصن بابليون اجتاح عمرو بن العاص على مرأى ومسمع منهم الدلتا واخترقها واستولى على الفيوم ثم عاد شرقا فعبر النيل ليلتقى بالمدد الذى جاء وحاصر البيزنطيين فى حصنهم واستتولى عليه بعد سبعة أشهر قبل أن يتوجه الى الاسكندرية العاصمة فيعود البيزنطيون الى الخطأ ذاته . خطأ تصور امكان الدفاع عن مصر من داخل مصر . أو رد الذين يتمكنون من دخولها فعلا . فيتحصنون فى الاسكندرية فيتركهم عمرو بن العاص محاصرين ويوجه قواته الى صعيد مصر فيفتحه . مات الامبراطور الغبى هرقل عام 641 والاسكندرية محاصرة . وخلفه كونستانز الثانى الذى تبين أنه قد تم الفتح العربى لمصر منذ أن تم الفتح العربى لسورية وسبق السيف العذل فطلب الصلح فأبرم معه عمرو بن العاص اتفاقا منحه به فرصة عام للانسحاب من الاسكندرية . ولقد انسحب البيزنطيون فى نهاية العام ( سبتمبر 642 ) بعد أن حملوا معهم مابقى بعد الذى أخرجوه فى سنة الهدنة ودخلها العرب بدون قتال. مهلة العام هذه تكذب تكذيبا قاطعا ماقيل أن العرب قد حرقوا مكتبة الاسكندرية . فالذين يحرقون عادة هم المنسحبون منها وليس المتقدمون اليها .

7- على أى حال ، من بداية الفتح العربى وعلى مدى ثلاثين عاما فقط ، تؤدى مصر دور نقطة الانطلاق الى شمال افريقيا . أى حتى بنى عقبة بن نافع مدينة القيروان لتصبح هى مركز التجمع وقاعدة الانطلاق الى مايليها غربا .

(3) المحدد التاريخى

التكوين القومى :

8- هنا يبدأ دور مصر فى التطور فيتغير نوعيا ابتداء من الفتح العربى . فبعد ستين سنة فقط تصبح اللغة العربية لغة مصر . ابتداء من عام 706 على وجه التحديد . ويدخل الناس فى دين الله أفواجا . ويعفى التاريخ مافرضته الجغرافيا فلن تدافع عن ذاتها بعد ذلك . لقد أصبحت جزءا فى موقع القلب من الامبراطورية العربية الاسلامية . تحيط بها أقطار بعدها أقطار تباعد بينها وبين مسارح المعارك الضارية التى لم تنقطع على حدود الامبراطورية شرقا وشمالا وغربا .. وطالما كانت القيادة المركزية فى دمشق أو فى بغداد قادرة على الدفاع عن حدود الامبراطورية التى انتقلت اليها حدود مصر . كانت مصر تؤدى دور الشريك فى الدفاع عن الدولة المشتركة . وقد بدأت فى اداء هذا لدور منذ وقت مبكر فى أول معركة حربية خاضها اسطول عربى ضد البيزنطيين فى عهد الخليفة عثمان بن عفان عام 655 ميلادية بقيادة عبد الله بن سعد بن أبى السرح المعروفة بمعركة ذات الصوارى البحرية . الا أنها قامت أساسا وعلى مدى قرون بدور المستقر الآمن الذى يجذب اليه بناة الحضارة من الفقهاء والعلماء والصناع ، ودور القاعدة الآمنة التى تعبأ فيها الجيوش وتبنى فيها الاساطيل وتخزن فيها الامدادات ، المؤهلة بهذا كله لتصبح عاصمة آمنة للدولة العربية الاسلامية . وهو مافطن اليه الفاطميون حين انطلقوا من أقصى الغرب يريدون الخلافة فما أن بلغوا مصر حتى شيدوا القاهرة واتخذوها عاصمة . وما اضطر اليه الخلفاء العباسيين بعد سقوط بغداد عام 1258 فاتخذوا من مصر مقرا للرمز الباقى لوحدة الدولة .

أما حين تضعف السلطة المركزية فقد كانت مصر تعود الى دورها الدفاعى ولكن بصيغة صنعتها الجغرافيا والتاريخ معا . فهىلم تقم بالدفاع منفردة عن ذاتها ، منفردة أبدا ، بل موحدة القوة مع أكثر من قطر عربى آخر ومع سورية على الدوام . وقد بدأ هذا الدور حينما غلب الترك الخلافة العباسية على أمرها .فلما أن بلغ هوان الخلفاء العباسيين أنه فيما بين عام 847 و عام 870 عين قادة الجيوش خمسة خلفاء قتلوا منهم أربعة : المتوكل والمستعين والمعتز والمهتدى ومات خامسهم ( المنتصر ) بعد ستة أشهر من ولايته يقال مسموما ، استشعر أحمد بن طولون حاكم مصر الخطر فتجاهل الخليفة المعتمد ووحد مصر وسورية عام 877 ، وحين تسقط الاسرة الطولونية تعود مصر وسورية الى سلطة الخلافة ولكن موحدتين عام 905 ، وفيما عدا سنوات من الانفصال نتيجة انتقال الولاية من حاكم الى حاكم تبقى مصر وسورية موحدتين نحو ستة قرون ونصف قرن أى من عام 877 حتى الغزو العثمانى عام 1517 . وينضم الحجاز واليمن الى هذه الوحدة تحت قيادة محمد بن طنج الاخشيد من عام 925 حتى عام 969 ثم ينضم المغرب العربى الى مصر والشام والحجاز واليمن حين تصبح القاهرة عاصمة الخلافة الفاطمية ابتداء من عام 969 حتى عام 1171 أى لمدة قرنين ، ويسقط حكم الاسرة الفاطمية وتعود الاسرة العباسية الى ولاية الخلافة على كل تلك الاقطار موحدة ابتداء من حكم صلاح الدين . وفى حكم صلاح الدين ومن بعده مايستحق الانتباه .

أننا نحن العرب نحب أن نتذكر فنذكر صلاح الدين البطل العربى الذى لايهزم . أولى بنا أن نعرف لماذا انتصر ولماذا انهزم وماهو دور مصر فى الحالتين . ونحن نعرف أن سورية قد انفصلت عن مصر على أثر وفاة السلطان نور الدين محمود . ولقد حاو ل صلاح الدين حاكم مصر ، بمصر وحدها، أن يتحدى الصليبيين مرتين فانهزم فى المرتين . الاولى عام1171 والثانية عام 1173 . هزمه أقل ملوك الصليبيين شأنا حاكم امارة مونتريال الصليبية . وقد أدرك صلاح الدين أسباب الهزيمة فأدرك أسباب النصر فظل يجهز للنصر أسبابه أربعة عشر سنة . انطلق أولا الى دمشق وهناك هزم الملك الصالح بالقرب من حماة يوم 13 ابريل 1175 وصفى قلاع الحشاشين الطائفية المتناثرة فى سورية وأعادها الى الوحدة . بعد هذا ، وليس قبله ، استطاع أن يتحدى الصليبيين فى معركة حطين بجيش عربى شاركت فيه مصر وقاده حاكمها صلاح الدين وليس بجيش مصرى ولو كان بقيادة صلاح الدين . فحرر القدس يوم 2 اكتوبر 1187 . ومن بعد صلاح الدين يقود قطز حاكم مصر جيشا عربيا يهزم المغول فى معركة عين جالوت فى سبتمبر 1261 . وتصبح القاهرة ابتداء من العام الثانى ولمدة ثلاثة قرون مقر الخلافة وعاصمة الدولة بعد أن سقطت بغداد عام 1258 . وتؤدى مصر بكفاءة دور القاعدة والقائدة فى تحرير الوطن العربى من بقايا الامارات الصليبية . فيحرر الجيش العربى بقيادة الظاهر بيبرس الكرك وقيسارية وأرسوف وصفد ويافا وأنطاكيا . ويحرر الجيش العربى بقيدة قلاوون اللاذقية وطرابلس .و يحرر الجيش العربى بقيادة خليل بن قلاوون عكا وصور وحيفا وبيروت فينتهى الاغتصاب الصليبى عام 1291 ..

9- كل هذا يستحق الانتباه لانه مؤشر على ماكان التاريخ يصنعه بمصر منذ الفتح العربى . لقد دخلت مصر بالفتح العربى طورا جديدا من تاريخها الطويل فخلقت من جديد . بدأ هذا الخلق التاريخى العظيم جنينا فى مجتمع المدينة بعد هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام . وفى مجتمع المدينة نبتت بذرة الامة العربية . تحولت القبائل الى شعب . وتحول الاعراب الى عرب . واختصوا دون غيرهم بمدينتهم فأصبحت لهم وطنا . وأنشأوا فيها دولتهم . أول حاكم محمد بن عبد الله . وأول دستور الصحيفة التى أقامت نظاما عاما للعلاقات الخارجية والداخلية ملزما لكل المواطنين فيها مسلمين وغير مسلمين على أساس وحدة الدفاع عن الوطن الواحد.
ثم انطلق العرب بالاسلام الى مايجاورهم فالتقوا واختلطوا بمجتمعات كانت قد تجاوزت الطور القبلى .واستقرت شعوبا متجاورة ولكن السيطرة الفارسية والرومانية عليها جميعا قرون عدة كانت قد أوقفت نموها فلم تتحول الى امم متجاورة . الحميريون فى جنوب الجزيرة العربية تحت السيطرة الحبشية ثم الفارسية منذ عام 575 ميلادية حتى ظهور الاسلام . الغساسنة فى الجزء الشمالى الغربى ومايحيط بتدمر فى سورية تحت السيطرة البيزنطية منذ القرن الثالث الميلادى حتى ظهور الاسلام . القبائل العربية من بنى لخم فى الجزء الشمالى الشرقى من الجزيرة فيما كان يعرف باسم العراق العربى تحت السيطرة الفارسية . كل الشعوب فيما بقى من سورية وفلسطين ثم مصر غربا حتى شاطئ المحيط الاطلسى مستقرة متجاورة على الارض عبيدا فيه بمعنى الكلمة للرومان منذ قرون عديدة . ..
فجاء الفتح العربى الاسلامى ليحررهم جميعا ويرفع عنهم قيود العبودية أولا ثم يلغى الحدود فيم بينهم ثانيا . ثم يقدم لهم لغة مشتركة ثالث . ثم يعرض عليهم عقيدة أرقى من عقائدهم رابعا . ثم ينظم حياتهم طبق لقواعد عامة واحدة ( الشريعة الاسلامية ) خامسا . ثم يتركهم قرونا فى حماية دولته ضد أى تهديد خارجى فيتفاعلون تفاعلا حرا فيما بينهم ، ومع الارض المشتركة قرونا متصلون بدون حدود أو سدود أو قيود على حرية الانتقال والمتاجرة والعمل والتعليم والتعلم سادسا . ثم يشركهم معا فى الدفاع عن حدود الدولة المشتركة وفى الجهاد من أجل العقيدة المشتركة حتى اذا ما ا شتركت أربعة أجيال متعاقبة منهم فى الدفاع ضد الغزو الصليبى الذى استمر قرنا بعد خمسة قرون من الحياة المشتركة . كان الشعب قد أصبح واحدا واصبح الوطن واحدا ، وارتفع بناء الحضارة الواحدة ، وتاهت الانساب ، واندثرت المواطن الاولى وانتشر البشر على اتساع الوطن الواحد فاصبحوا جميعا أمة عربية واحدة . ولم تعد مصر جارة للعالم العربى ، ولا حليفة فى الدفاع ضد الخطر المشترك ، ولا شريكا فى مصلحة عابرة ، بل أصبحت جزءا من الامة العربية التى صنعها التاريخ ولم يصنعها أحد على عينه.

10- الامة العربية وجود موضوعى غير متوقف وجودا أو عدما على ارادة أحد ، فمصر جزء من الامة العربية بدون توقف على ارادة أحد من مصر أو من غير مصر . كما أن العربى عربى ولو كره ذلك . هكذا تعلمنا من اساتذتنا الرواد . ثم أضفنا أن مجرد هذا الوجود القومى دليل موضوعى غير قابل للنقض على أن ثمة روابط وأسبابا موضوعية ، قد نعرفها وقد لانعرفها ، توحد مصير الامة بحيث يكون من العبث الفاشل أن يحاول أى عربى أو جماعة عربية أو قطر عربى أن يفلت بمصيره الخاص من مصير امته سيفشل حتما ولو فى المدى الطويل . روابط وأسباب موضوعية قد نعرفها اذا درسنا تاريخنا وواقعنا لنكشفها لا لنختلقها . فاذا لم ندرس فاننا نكتشفها ـ بسهولة ـ فى خلاصتها الحضارية . فى ذلك الشعور بالانتماء القومى الى الامة العربية الذى مايزال يحدد مواقف عشرات الملايين من العرب البسطاء الذين لم تتح لهم فرص التعليم والدراسة . ثم أننا نكتشفها كل يوم من مواقف غيرنا منا . فنحن عندهم عرب بصرف النظر عن اقطارنا سواء كانوا أعداء لنا أم حلفاء وأصدقاء ، وسواء أعجب هذا الانتماء أحدا منا أم لم يعجبه .

لقد كنا نقول هذا ونردده ونبشر به وندافع عنه على مدى نحو ربع قرن فى كتب منشورة ابتداء من عام 1965 . وماكان يجرؤ على انكاره الا القليل يوم أن كانت مصر تؤدى دورها المتميز كقاعدة وقائدة ورائدة تحت راية عبد الناصر . ومن فوق قمة النصر فى مثل هذا الشهر منذ ربع قرن وعام أى فى فبراير 1958 لم ينسب عبد الناصر النصر الى مصر بل نسبه الى الامة العربية. سئل عما يتوقع أن يحدث للعرب لو أنه مات فقال لسائله (( هل تظن أننى أنا الذى خلقت القومية العربية ؟.. أبدا . ان الامة العربية هى التى خلقتنى . لست أنا الذى اثيرها بل هى التى تحملنى . انها قوة هائلة ولست أنا الا أداتها . ولو لم أكن موجودا لأوجدت واحدا ، عشرة ، ألفا غيرى يحلون محلى . ان القومية العربية لايمثلها رجل واحد أو مجموعة من الرجال ، انها لاتتوقف على جمال عبد الناصر ولا على الذين يعملون معه .انها قوة كامنة فى ملايين العرب الذين يحمل كل منهم شعلة القومية . انها تيار جارف ، ولاتستطيع أية قوة فى العالم ولن تستطيع تحطيمها طالما احتفظت بالثقة فى ذاتها )).
نعم . طالما احتفظت بالثقة فى ذاتها . هكذا قال جمال عبد الناصر رحمه الله ..
ولكن كثيرين كانوا لايثقون فى القومية العربية بالرغم مما كان يقول أكثر حكام العرب فى التاريخ تجربة وأغناهم خبرة بدور مصر فى العالم العربى . بل كانوا يرجعون الانتماء تحت الراية المنتصرة الى جاذبية النصر ذاته بدون أن يتوقفوا للرد على السؤال : ولماذا لايلتقى العرب تحت راية منتصرة الا أن تكون راية عربية ، ومن حولهم أمم كثيرة انتصرت فلم يلتقوا تحت رايتها ؟. على أى حال لقد قدم التاريخ الدليل الحاسم على وحدة المصير من الردة فالقطيعة فالعزلة فالعداء بين مصر السادات والعالم العربى فما الذى جرى ؟. لا أحد ينكر الان ماجرى لا فى مصر ولا فى باقى العالم العربى . حينما تكف مصر عن أداء دور الجزء من الامة العربية تتقلص الى حد الشلل مقدرة بقية الاجزاء عن أداء أدوارها فتتقلص الى حد الشلل مقدرة مصر ذاتها على أن تؤدى الدور الذى اختارته ، فتكاد تنهار كل القوى فى العالم العربى بما فيها مصر . المسألة ـ اذن ـ ليست مسألة قيادة فذة وقيادة شاذه . ولامسألة انتصار أو انكسار ، بل هناك تحت جلد العالم العربى شبكة من الروابط الموضوعية التاريخية التى تقاوم تجزئة الامة الواحدة ، وتحافظ على وحدتها ، وتوحد مصيرها ، وتعلم من لايريد أن يتعلم أن غاية شرود الجزء من الكل الفشل والشلل للاجزاء جميعا..

11- فى قلب هذا الوجود القومى يعيش ثلث الشعب العربى فى مصر ، وتختزن فيها أنضج عناصر الحضارة العربية الاسلامية فى العلوم والآداب والفنون والخبرة المتراكمة اقتصاديا وسياسيا . وتتمتع بأكبر قدر من التجانس الاجتماعى بفضل احتضان الامة العربية لها وحمايتها من آثار التخريب العشائرى والطائفى الذى أحدثته الاعتداءات الشعوبية على أطراف الامة العربية . فهى القاعدة لاية تعبئة قومية . وهى القائدة لاية مسيرة قومية . وهى الرائدة لاية نهضة قومية .وهى كما وصفها بحق الأديب المؤرخ الفرنسى بنواميشان فى كتابه ( الازدهار العربى ) بأنها “مخ العرب” ، الذى يتلقى من كل أعضاء الجسم ماتحسه وتعانيه فيدرك ., ويوجه أعضاء الجسم فتستجيب . أعجبنى هذا التشبيه لأن المخ بدون أعضاء فى جسم واحد قطعة من اللحم الرخو سريع التلف . كما أن الاعضاء فى جسم واحد تختل حركتها وتطيش وقد تهلك اذا مافقد المخ ملكة الادراك السليم أوغسله أحد من ثرائه وحشاه فكرا غريبا على تكوين الاطراف .

12- هكذا سيكون دور مصر فى العالم العربى منذ صلاح الدين حتى آواخر القرن التاسع عشر . لن تتأثر كثيرا بتنازع الأسر على تولى الخلافة . فقد بقيت تؤدى دورها كجزء من الامة العربية وولاية الخلافة للأسرة الفاطمية ثم العباسية ثم العثمانية . انتهت ولاية الخلفاء الفاطميين فى مصر ظهر يوم جمعة . سمع المصلون خطباء المساجد يدعون للخليفة العباسى بدلا من الخليفة الفاطمى بأمر من صلاح الدين فانتهى الامر . وحين تولت الاسرة العثمانية الخلافة بعد هزيمة الجيش العربى فى معركة مرج دابق يوم 12 اغسطس 1516 ودخول مصر فى يناير 1517 وعزل الخليفة العباسى . لم يتغير شئ فى مصر . اكتفى العثمانيون بأن يحصلوا على ربع حصيلة الضرائب ، وبأن يولوا الولاة لجبايتها . وبعد أربعة قرون لم يتركوا بها أثرا سوى مسجدين مفرطين فى تواضع العمارة أحدهما مسجد السنانية فى بولاق الذى بناه سنان باشا عام 1571 والاخر مسجد أبو الدهب الذى أنشئ عام 1774 .ثم أنهم فصلوا ادارة سورية عن ادارة مصر لاول مرة بعد ستة قرون ونصف قرن . ولكنهم لم يستطيعوا أن يعزلوا مصر عن الامة العربية . ولم يقبل الشعب العربى فى مصر حتى الفواصل الادارية . فما أن يتولى الامر بها حاكم قادر حتى يلغى تلك الفواصل وينزع نزوعا يكاد يكون غريزيا الى الوحدة العربية وماهى الا استجابة لروابط موضوعية تشد الامة الواحدة بعضها الى بعض . هكذا حاول أن يفعل على بك الكبير عام 1768 . وهكذا حاول أن يفعل محمد على ابتداء من 1815 . وهكذا ستكون مصر مأوى الاحرار الهاربين اليها من القهر الطورانى حينما يستولى الترك على الدولة فيحولونها من دولة مشتركة الى دولة مسيطرة فيأتى رد الفعل العربى متدرجا من اللامركزية الى الانفصال والوحدة .

(4)محددان لدور مصر :

الواقع الدولى :

13- وهكذا نستطيع أن نقول أنه بصرف النظر عن الآمال والآلام ، عن الرغبات والمتغيرات ، عن الحكام والمحكومين ثمة محددان موضوعيان ثابتان نسبيا لدور مصر فى العالم العربى . أولهما محدد جغرافى اقليمى والآخر محدد تاريخى قومى . لقد تواليا عليها تاريخيا . أسبقهما المحدد الجغرافى الاقليمى . وهما متناقضان ، اذ يحـدد كل منهما لمصر دورا فى العالم العربى مختلف المدى والمضمون والبواعث والاسلوب والاداة . ولقد توقف الدوران كلاهما عام 1882 بالاحتلال البريطانى وأصبحت مصر واقعيا ـ لارسميا ـ اداة تؤدى بها بريطانيا الدور الذى تريده فى العالم العربى أو فى تأمين مواصلاتها الى مستعمراتها فيما يلى العالم العربى شرقا .

14- ولكن الامر سيحسم بعد نهاية الحرب الأوروبية الاولى وتقسيم الامة العربية الى دول بفعل الاستعمار الاوربى حسم بعد تمهيد طويل وبمراحل متتابعة . أسبقها مرحلة الامتيازات الاجنبية التى حصلت عليها الدول الاوروبية من سلاطين بنى عثمان . فرنسا عام 1535. انجلترا عام 1571 . هولندا عام 1598. روسيا عام 1700 . السويد عام 1737 . نابولى عام 1740 . الدنمارك عام 1756 . بروسيا عام 1797 . اسبانيا عام 1782 . الولايات المتحدة الامريكية عام 1830. بلجيكا عام 1838 . البرتغال عام 1848 . واليونان عام 1854 ، فانتقص من سيادة الشعب على وطنه بقدر ماحصلت عليه كل من تلك الدول من سلطة مباشرة على رعاياها فى الارض العربية . المرحلة الثانية مرحلة الاقتطاع من جسم الامة العربية والاحتلال . احتلت فرنسا الجزائر عام 1830 وتونس عام 1881 واحتلت انجلترا جنوب الجزيرة العربية عام 1838 والاحساء عام 1871 ومصر عام 1882 والسودان عام 1889 ومسقط عام 1892 والكويت عام 1899… الى آخره .المرحلة الاخيرة بعد الحرب الاوروبية الاولى فأصبح كل قطر دولة مستقلة عن الدول الاخرى وأصبحت مصر دولة مستقلة عن الدول العربية وأصبح العالم العربى دولا متجاورة . ولم يكن ذلك محددا جديدا لدور مصر فى العالم بل كان تقنينا دوليا لذات المحدد الجغرافى الاقليمى لدور مصر كما مارسته منذ بدء التا ريخ حتى الفتح العربى ..

15- من الجوهرى وقد وصل بنا الحديث الى مانحن عليه أن نلتفت الى حقيقة لايجوز أبدا أن تغيب عن الانتباه ونحن نخصص الحديث لدور مصر فى العالم العربى . أن كل ماسنقول ينطبق على كل دولة عربية . ان يكن التقسيم الدولى قد وقع على جسم الامة العربية الواحدة فتحولت مصر الجزء الى دولة فأن كل دولة عربية كانت قبل الاقتطاع أو التقسيم جزءا من الامة العربية ثم أصبحت دولة . وان كانت دولة مصر قد قننت المحدد الجغرافى الاقليمى لدور مصر كما مارسته منذ بدء التاريخ حتى الفتح العربى . وان كان لمصر دور فى العالم العربى من حيث هى دول متجاورة فان لكل دولة عربية دورا فى العالم العربى من حيث هو دول متجاورة . وان كانت مصر تعانى من التناقض بين المحدد الجغرافى الاقليمى لدورها فى العالم العربى وبين المحدد التاريخى القومى لهذا الدور فان كل دولة عربية لابد معانية هذا التناقض . كلنا فى هذا عرب وانما نختلف درجات فى المعاناة وفى المقدرة على مغالبتها . واخيرا ، فأن دولة مصر ماكان يمكن أن تكون مستقلة عن دول العالم العربى الا لان دول العالم العربى مستقلة عنها اذ الاستقلال علاقة ذات أطراف متعددة .
اذن ، ان كنا سنكمل حديثنا عن دور مصر فى العالم العربى ومحدداته ، فنرجو أن يكون مفهوما أننا نتكلم عن دور كل دولة عربية ومحدداته بدون اخلال باختلاف مضامين الادوار والتفاوت فى المقدرة على أدائه .ثم نرجو الا ينزعج أحد كثيرا اذا تحدثنا عن المحدد الجغرافى الاقليمى لدور مصر الدولة وآثاره كما لو كان هو وحده الذى يحدد دور مصر . لا . ان المحدد التاريخى القومى مايزال يغالبه فى تحديد هذا الدور .انما نريد أن نعرض لدور دولة مصر كما يلده المحدد الجغراف الاقليمى عاريا ، حتى لاينخدع أحد ممن يريدون تبنيه أو يزعم أن أحدا قد خدعه .

دولة مصر:

16- التقنين الدولى الواقعى للمحدد الجغرافى الاقليمى هو أن مصر دولة .والدولة كما هو معروف مؤسسة من عناصر ثلاثة : الشعب والاقليم والسيادة . نعنى سيادة الشعب على اقليمه . وقد يعبر عن عنصر السيادة فى بعض كتب فقه القانون بكلمة السلطة وهو تعبير غير دقيق . اذ السلطة هى استعمال السيادة وليست السيادة ذاتها . مثلها مثل حق الانتفاع الذى هو استعمال لحق الملكية وليس الملكية ذاتها . والفارق بينهما أن السيادة لاتنتقل ولكن السلطة تنتقل . فبينما تبقى السيادة لصيقة بالشعب لاتفارقه ولاتنتقل الى غيره ، قد يعهد الشعب بممارستها الى من ينوب عنه فتصبح ممارستها سلطة ، وقد أصبح تقليديا فى أغلب الدول ومنذ القرن الثامن عشر أن تمارس السلطة بواسطة من مؤسسات للتشريع والتنفيذ والقضاء . تتبع كلا منها أجهزة تنفيذية ذات وظائف نوعية مختلفة يقوم عليها موظفون معينون . كما أصبح تقليديا فى أغلب دول العالم أن تجرى ممارسة السلطات داخل الدولة طبقا لقواعد عامة ، مكتوبة أوغير مكتوبة، ملزمة للكافة من أول الدستور ، أو القانون الاساسى ، الى القوانين ، الى اللوائح، الى الاوامر الادارية .تحرس قوتها الملزمة وتحمل الناس على الالتزام بها قوة ردع مسلحة من الشرطة والمحاكم والسجون والمشانق .وفيما بين حدى الوظيفة والردع يسهم كل قائم على وظيفة فى أى جهاز تابع لاية مؤسسة من مؤسسات الدولة ، اسهاما مباشرا أو غير مباشر ، كبيرا أو ضئيلا، ظاهرا أو خفيا ، فى تحديد الدور الذى تقوم به هذه المؤسسة الهائلة المنظمة المعقدة التىاسمها الدولة .

ومصر دولة :

ان هذا المحدد الجغرافى الاقليمى المقنن لايسمح بأن يسند الى مصر أو يطلب منها دورا لاتؤديه الدولة . وان هذا لعلى أكبر قدر من الاهمية خاصة بالنسبة الى الحديث العربى عن دور مصر فى العالم العربى . ذلك لانه لاسباب مشروعة تاريخيا ومصيريا عرفاناها ،كثيرا مايدور الحديث ، وتبنى الامال ، على دور لمصر فى العالم العربى على أساس محدد بأحد عناصر دولتها ، فهو الدور الذى يتناسب مع كثافة شعب مصر الذى يبلغ ثلث مواطنى العالم العربى . أو هو الدور الذى يتناسب مع موقع أقليم مصر فى قلب العالم العربى وملتقى مشرقه ومغربه . أو هو الدور الذى يتناسب مع حجم التراكم الحضارى الذى حققه شعب مصر فى ميادين الفكر والعلم والفن والاقتصاد والسياسة ….الى آخره ، فيبقى الحديث مجرد تعبير عن دور مأمول غير قابل للتحقق ، وتؤدى خيبة الامال ، أو كثيرا ماتؤدى ، الى الغضب أو اليأس بدلا من أن تكون حافزا على مراجعة الرؤى أو الرؤية .

ويبقى الواقع كما هو : فى مصر لاتتحول الامال الى واقع ، ولاتتحول البواعث الى حركة ، ولاتتحول الافكار الى أدوار الابعد أن تمر بأمعاء تلك المؤسسة الهائلة المنظمة المعقدة التى أسمها دولة مصر فتهضمها ، فاما أن تتمثلها فتتحول الى قوة محركة الى دور معين واما أن تلفظها ..

قد ييقال أن دولة مصر هى ـ فى التحليل الاخير ـ مؤسسة الشعب فيها . وأنه اذا ماأراد الشعب لدولته أن تقوم بدور معين فى العالم العربى ، أو فى غير العالم العربى حملها على أدائه فأدته .

هذا القول ليس صحيحا على اطلاقه . أنه أبسط من أن يكون واقعيا . وقد أغرت بساطته بعض البسطاء من العرب فى دولتهم البسيطة بأن يحددوا لمصر أدوارا معينة فى العالم العربى وأن يطلبوا من الشعب فيها أداء تلك الادوار فى خطب ونداءات مباشرة منهم اليه . . وقد يحدث أن يغضب بعض أولئك البسطاء من أن الشعب فى مصر لايقومم بالدور أو الادوار التى يطلبونها منه فيصبون جام غضبهم عليه وقد يتهمونه ـ يتهمون شعب مصر ـ فى عروبته أو فى وعيه او فى مقدرته فيقدمون من أنفسهم أدلة حية على صحة مايرد فى علم الاجرام من أن بساطة التفكير أحد أسباب جرائم التدمير .

ان الشعب فى مصر عنصر من عناصر دولة مصر . لاهو خارجها ولاهو فوقها . ولاهى مجرد أداة يؤدى بها الدور الذى يشاء على مايريد . بل أن الدولة هى التى تفرض على الشعب ، من حيث هى واقع موضوعى ثابت نسبيا ، حدود مايمكن أن يتحقق مما يريد ، والدور الذى يمكن أن يؤديه فيها وبها . حد ثابت ـ مثلاـ من عناصر اقليمها فليس له أن يتنازل عن شبر واحد منه لانه ملكية تاريخية مشتركة بين الاجيال المتتابعة ، وليس له أن يضيف اليه مالا سيادة له عليه . وحد ثابت ـ مثلا آخرـ من عناصر السيادة فليس له أن يفرط فى جزء منها وليس له أن يمدها الى مايتجاوز حدود مصر اقليما وشعبا . من يفرط يردع فى الداخل ومن يتجاوز يمنع من الخارج .
انما قد يصدق مايقال عن العلاقة بين الشعب صاحب السيادة والقائمون على ممارستها نيابة عنه فيما يسمى السلطة ، أى على العلاقة بين الشعب والحكومة بمعناها الواسع . بعد أن نسلم بأن هذه علاقة قائمة داخل الدولة لاخارجها ولافوقها نستطيع أن نسلم بسهولة بأن الشعب اذا أراد يستطيع أن يحمل حكومته ـ بالاسلوب المناسب ـ على أن تؤدى الدور الذى يريد لدولته أن تؤديه فى العالم العربى ، ولو أدى ذلك الى تغيير النظام كله فى الدولة من أول الدستور الاسمى الى ادنى القرارات الادارية . ولكن حينما يقوم الشعب بهذا يغير نظام الدولة ولايغير الدولة . يتغير النظام بالارادة الشعبية وتبقى الدولة لاتتغير ولو اراد شعبها . وهذا يعنى مانرجوه أن يكون محل انتباه دقيق . أنه حتى لو اراد شعب مصر أن تؤدى مصر فى العالم العربى دورا غير الذى تؤديه فحمل حكومته على ادائه ، أو استبدل بها حكومة أخرى ، أو غير نظام الدولة جملة ، فان هذا الدور لن يؤدى الا من خلال دولة مصر وبالتالى لن يتحقق منه الا ذلك القدر الذى تسمح به طبيعة الدولة كتقنين لمحدد واقعى ثابت نسبيا ..

17- المرجع اذن لمعرفة دور مصر فى العالم العربى هو دولة مصر . فكيف يتحدد دور مصر فى دولة مصر ؟ اننا نقترب بهذا السؤال من عقدة موضوعنا الذى لم تكن التعهدات السابقة الا مقدمة له أو مدخلا اليه .

لقد عرفنا مايعرفه الكافة من أن دولة مصر ـ كأية دولة ـ مؤسسة مركبة من عناصر ثلاثة : الشعب والاقليم والسيادة . وعرفنا أن الاقليم والسيادة حدان ثابتان نسبيا لاينبغى لارادة الشعب فى الدولة أن تتجاوزهما أو تتخلى عنهما .فى نطاق هذين الحدين هل تترك الدولة للشعب مهمة تحديد الدور الذى تؤديه فى العالم العربى أو فى غير العالم العربى ؟….أو بصيغة أخرى مامدى صحة اسناد الدور الذى تقوم به الدولة الى الشعب ؟.. ترجع أهمية هذا السؤال الى أنه لو صح أن الشعب هو صاحب القرار الاخير فى تحديد الدور الذى تقوم به الدولة لتحمل كل الشعب مسئولية الاثار التى يحدثها هذا الدور من ناحية ، ولكان الموقف من أى دور تقوم به الدولة قبولا أو رفضا أو عداء هو موقف قبول أو رفض أو عداء من الشعب نفسه من ناحية ثانية ، ولكان من الافضل تجاهل الدولة والتعامل مباشرة مع الشعب من ناحية ثالثة . ولأن السؤال مهم فيما نعتقد سنحاول أن نجيب عليه اجابة قاطعة وذلك بافتراض أنه لاتوجد أية قيود على حرية الشعب فى التعبير عن ارادته واختيار القائمين على السلطة فى دولته .

18- يبلغ الشعب فى مصر نحو خمسة وأربعين مليونا عددا . وهم مختلفون سنا وعقلا وفكرا ووعيا ومصالح ونوازع . ولم يحدث أبدا . وليس من المتوقع أن يحدث أن يسأل كل منهم على حدة عن الدور الذى يريد لمصر أن تؤديه فى الوطن العربى أو أى دور آخر . ولو سئلو ا لاختلفوا فيه . فنأخذ مصر ـ مثل أغلبية الدول فى العالم المعاصر ـ فى التعرف على مايسمى ارادة الشعب . بتلك الحيلة التى ابتكرها الليبراليون الاوربيون فى القرن السابع عشر والتى قال عنها الفقيه الفرنسى كاريه دى ملبرج انها اخترعت اختراعا لحرمان الشعب من سيادته . نعنى التمثيل النيابى . تأخذ الدولة فى مصر ربع الشعب أو مايزيد قليلا عن عشرة ملايين وتعطيهم وحدهم الحق فى المشاركة فى تحديد الدور او الادوار التى تقوم بها الدولة وتستبعد باقى الشعب . ثم تدعو أولئك الملايين العشرة من حين الى حين ( المفروض كل خمس سنوات ) الى أن ينتخبوا من بينهم عددا لايزيد عن 375 ليمثلوهم فى ادارة الدولة ومنها تحديد الدور الذى تقوم به مصر فى العالم العربى مثلا . ثم تستبعد الباقين . فمنهم من يلبى الدعوة ويختار ومنهم من يمتنع . ولم يحدث أن تجاوزت نسبة الملبين المشاركين فى عملية الانتخاب 30% ( ثلاثين فى المائة ) من عدد الناخبين . انها النسبة التى تحققت فى انتخابات 28 اكتوبر 1976 التى يعتبرونها نموذجية . أما نسبة التسعة وتسعين فى المائة التى نسمع عنها كثيرا فلا تعلن الا بمناسبة الاستفتاءات حيث يقال أن تلك الاغلبية الكاسحة من الناخبين قد ذهبوا من تلقاء انفسهم ليقولوا نعم لكراسات وقوانين واتفاقيات وخرائط مع أن نسبة الذين لايقرأون ولايكتبون منهم لاتقل عن ثلاثين فى المائة . ومن الطريف أنه قبل أن تجرى انتخابات 28 اكتوبر 1976 النموذجية التى لم بيشارك فيها الا ثلاثة ملايين من الناخبين ، قبلها بنحو شهر أى فى 16 سبتمبر 1976 أجرى استفتاء فيمن يتولى رئاسة الجمهورية وأعلن أن أنور السادات قد حصل على أكثر من تسعة ملايين صوتا جاء اصحابها متطوعين ليقولوا نعم . أنهم هم هم الذين لم تفلح ـ بعد شهر واحد ـ كل دعايات الاحزاب ( أو المنابر كما كانت تسمى حينئذ ) ، وكل ماتضعه تحت تصرف الناخبين من تسهيلات انتقال ، وأسباب تشجيع أو اغراء ، فى أن تحرك سوى ثلاثة ملايين منهم الى صناديق الانتخابات . وقد أدخل أخيرا نظام الانتخابات بالقوائم النسبية الحزبية ، فاستبعد من مجال الترشيح والتمثيل كل الذين لاينتمون الى واحد من الاحزاب السياسية القائمة ، وأصبحت الاصوات تعطى للحزب الذى يوزعها بمعرفته على مرشحيه أو من تختارهم قيادته ليكونوا نوابا عن الشعب . والاحزاب ستة فالقيادات ستة . فان شارك فى الاختيار كل أعضاء الاحزاب الستة فانهم لايبلغون مليونا فى أى حزب. على أى حال لايهم طريق الاختيار مادام يتجه بعيدا عن الشعب وارادته .

عندما يجتمع أولئك النواب ليجيبوا على السؤال: ماهو دور مصر فى الوطن العربى ؟ قد يختلفون . فان اختلفوا فالدور الذى ستؤديه مصر ، كما صاغته الدولة ، هو رأى أغلبية الحاضرين ، أى نحو مائتى مواطن، ولكن أجهزة الدولة كلها ستعلن أن ذلك هو الدور الذى حدده شعب مصر لدولتها بارادته الحرة من خلال مؤسساته الدستورية بأسلوبه الديموقراطى المتحضر . وستقرها على ذلك كل الدول فى العالم العربى ، أو فى العالم كافة ، التى تأخذ فى التعرف على ارادة شعوبها بتلك الحيلة النيابية . وهكذا تدعم الدولة ماتفرضه على ارادة الشعب من حدى الاقليم والسيادة أو تحافظ عليهما ضد الارادة الشعبية بمسخها رأى الشعب فى رأى الاقلية . الواقع أنها أقلية الاقلية التى تصوغ فعلا الدور الذى تقوم به دولة مصر فى العالم العربى وكل دور آخر ..

19- ونذكر فنقول أن مصر فى كل هذا ليست الا مثلا من دولة حديثة لكل الدول الحديثة . بما فيها دول العالم العربى ذاته . فى هذا العصر لاتوجد شعوب خارج أقفاص الدول . حتى الذين فقدوا دولتهم يتطلعون اليها أو يقاتلون من أجل استردادها من نوافذ أقفاص الدول المضيفة أو الدول الحليفة انه عصر الدول ذات الشعوب وليس عصر الشعوب ذات الدول . سواء أعجبنا هذا أم لم يعجبنا . وحتى لو صدق فى الدول ماقاله نيتشه من أن الدولة أكثر صفاقة من أى صفيق.. انها تكذب بصفاقة وتقول أنا الشعب .وكل ماتملكه سرقة . وكل شئ فيها زائف .انها ـ على أى حال ـ أ قل صفاقة وكذبا وزيفا من حاكم فرد يقول أنا الشعب ويكذب ويسرق وان كانت ارادة الشعب الضحية غائبة فى الحالتين .

20- وتتميز الدولة بأن خارج مؤسساتها لا يبقى الشعب راكدا بل هو يلمس ويراقب وينقد أو يؤيد الدور الذى تؤديه الدولة والذى يتحمل هو عائده النهائى مكسبا أو خسارة ، نصرا أو هزيمة ، تقدما أو تخلفا. ويلعب المثقفون والمتعلمون والكتاب والصحافة وأجهزة الاعلام المرئى والمسموع والشائعات والنكت أدوارا مؤثرة ـ بالغة التأثير ـ فى تكوين مايسمى بالرأى العام الشعبى الذى لايكف عن التفاعل مع الرأى الخاص الحكومى متأثرا به مؤثرا فيه على وجه تتوقف حصيلته على قوة التأثير النسبية بين طرفيه العام والخاص . وفى هذا تفترق الدول . وتنتمى مصر الى مجموعة دول العالم الثالث ، أو النامى ، أو المتخلف حيث لاشبهة فى أن الحكومات تمتلك من أدوات التأثير فى الرأى الشعبى العام ماهو أقوى بمراحل مما تملكه الشعوب من أدوات التأثير فى الرأى الحكومى الخاص . مع الاعتراف بهذا ، لايمكن انكار أن الرأى العام فى مصر يملك قوة تأثير لاتملكها الا قلة قليلة من شعوب العالم الثالث . وراء ذلك أسباب تاريخية وحضارية وعلمية وخبرات متراكمة من التعامل مع مختلف أنواع الحكام ومختلف نظم الحكم . وقد لفتتنا دراسة تاريخية الى خاصية قد تكون ذات علاقة بما تعلمه من النيل وواديه الخصيب . الصبر على النيل حتى يفيض وينحسر ثم يزرع ، والصبر على الزرع حتى ينمو ويثمر ثم يحصد . أعتقد أن ذلك قد علمه أن يغالب رغباته حتى لايفصل بين حركته وبين وقتها المناسب . وهكذا فهمنا لماذا يقوم كل جيل من شعب مصر بثورة بالرغم من الا علاقة وثيقة بين أسباب الثورات وتوالى الاجيال . جيل أحمد عرابى عام 1882 . جيل مصطفى كامل 1907 . جيل سعد زغلول عام 1919 . جيل أحمد حسين وفتحى رضوان عام 1935 . ثم جيل عبد الناصر 1952 .. ولماذا يبدو فيما بين ثوراته لامباليا . قد نكون التفتنا الى مارغبنا الالتفات اليه ، قد نكون أخطأنا فهم التاريخ ، ولكن كل هذا لايهم .
المهم هو أن الشعب فى مصر غير راكد وأن فى مصر رأيا عاما يحيط بمؤسسات الدولة بعضه مطبوع وبعضه مصنوع ولكنه على حاليه مؤثر فى صياغة الدور الذى تقوم به دولة مصر فى العالم العربى وهو دور محل خلاف كبير بحكم التفاوت الكبير فى درجات الوعى الشعبى ويحكم التعارض الكبير بين مصالح الافراد والجماعات . ولكن هذا الخلاف ينصب على ماهية الدور الذى تقوم به مصر فى العالم العربى . أما عن مبرره فهو واحد لدى المختلفين المنطلقين اليه من أن مصر دولة .

نضرب مثلا مما قاله عالم دارس جاد من مصر الى يحبها حبا جما وله فى فكرها قدر يعتد به من التأثير .

21- قال الدكتور جمال حمدان فى كتابه المثير عن (( شخصية مصر دراسة فى عبقرية المكان )) : أننا قط لم نكن أحوج مما نحن الان الى فهم كامل معمق موثق لوجهنا ووجهتنا ، لكياننا ومكاننا ، لامكانياتنا وملكاتنا ، ولكن أيضا لنفائسنا ونقائصنا . كل أولئك بلا تحرج ولاتحيز أو هروب . ففى هذا الوقت الذى تأخذ مصر منعطفا خطرا ، ولانقول منحرفا خطأ ، فكل انحراف مهما طال أو صال أو جال الى زوال ، ولايصح فى النهاية الا الصحيح ، فى هذا الوقت الذى تتردى مصر الى منزلق تاريخى مهلك قوميا ويتقلص حجمها ووزنها النسبى جيوبوليتيكيا بين العرب وينحسر ظلها ، نقول فى هذا الوقت تجد مضر نفسها بحاجة أكثر من أى وقت مضى الى اعادة النظر والتفكير فى كيانها ووجودها ومصيرها بأسره : من هى ، ما هى، ماذا تفعل بنفسها ، بل ماذا بحق السماء يفعل بها ، الام ، والى أين ..الخ .. الخ ؟ . بالعلم وحده فقط ، لا الاعلام الاعمى ، ولا الدعاية الدعية ولا التوجه القسرى المنحرف المغرض يكون الرد .

ان مصر تجتاز اليوم أخطر عنق زجاجة وتدلف أو تساق الى أحرج اختناقه فى تاريخها الحديث وربما القديم كله . ان هناك انقلابا تاريخيا فى مكان مصر ومكانتها . ولكن من أسفل الى أسفل والى وراء . نراه جميعا رأى العين ولكننا فيما يبدو متفاهمون فى صمت على أن نتعامى عنه ونتحاشى أن نواجهه ” فى عينه ” ووجها لوجه ونفضل أن ندفن رؤوسنا دونه فى الرمال
لقد تغيرت ظروف العالم المعاصر والعالم العربى من حولنا ، فلم يعد الاول بعيدا نائيا ولاعاد الثانى مجرد أصفار على الشمال .
ففى عصر البترول العربى الخرافى ، نخدع أنفسنا وحدنا اذا نحن فشلنا فى أن نرى أن وزن مصر وثقلها ، حجمها وجرمها ، قامتها وقيمتها ، قوتها وقدرتها ، بيبن العرب وبالتالى أيضا فى العالم ككل ، قد أخذت تتغير وتهتز نسبيا فى اتجاه سلبى وان كانت هى فى صعود فعلبا ولم تعد مصر بذلك تملك ترف الاستخفاف والاستهتار بمن حولها من الاشقاء أو الانعزال المريض المتغطرس العاجز الغبى المجهول الذى يغطى عجزه وتراجعه وارتداده بكبره المغرور وصلفه الاجوف وعنجهيته القزمية ، والذى يعوض مركب نقصه باجترار الماضى وأمجاده ، وتمجيد العزلة والنكوص باستثاره أدنى غرائز الشوفينية البلهاء . من هنا فان مصر فى وجه هذه المتغيرات بحاجة ماسة جدا الى اعادة نظر حادة فى ذاتها والى مراجعة للنفس أمينة وصريحة ، بلا تزييف أو تزويق ، بلا غرور أو ادعاء ، بلا زهو ولا خبلاء ، ولكن كذلك بلا تهرب أو استخفاء ، وبلا تطامن أو استجداء ..”.

22- اذا استطعنا الفكاك من أسر البلاغة الآسرة وجردنا هذا القول من أهاب شحنة عاطفية متأججة بحب مصر نجد أنه يريد لمصر أن تؤدى فى العالم العربى وعصر البترول الخرافى دورا ينقذها مما يرى أنها منزلقة اليه منزلقا مهلكا وتسترد به حجمها ووزنها بين العرب وبالتالى مكانها ومكانتها فى العالم كله . أى دور يحقق مصلحة مصر .

نشر هذا الرأى فى القاهرة عام 1980 أى بعد انعقاد اتفاقيات كامب ديفيد يوم 17 سبتمبر 1978 وابرام معاهدة السلام مع المؤسسة الصهيونية المسماة “اسرائيل” يوم 26 مارس 1979 وتصديق مجلسي الشعب عليها يوم 10 ابريل 1979 ، وماعصره مما أسموه المقاطعة العربية لمصر ، وماترتب على كل هذا من أفعال وردود أفعال أججت معركة الصراع الفكرى حول دور مصر فى العالم العربى وأثارت كوامن قوى الصراع الاجتماعى ولم تزل .
ولكن على أساس مصلحة مصر أيضا كمحدد لدورها فى العالم العربى كان يمكن أن يقال للدكتور جمال حمدان أو ردا عليه : سيدى ، مادمت تسلم بأن مصر التى تحبها كانت هى فى صعود فعليا بالرغم من كل ماتبكيه وتندبه فلماذا تبدد طاقتك فى العويل على مافقدته مصر الصاعدة ، ألسنا نحتكم الى مايحقق مصلحة مصر ؟. الذى قيل فعلا ردا على كل منكر للدور الذى قامت به حكومة مصر فى العالم العربى ابتداء من عام 1975. أن مصر قد فهمت أخيرا فهما كاملا معمقا موثقا وجهها ووجهتها فاستنقذت ذاتها من منزلق تاريخى مهلك وواءمت بين حجمها وظلها .. الى اخره . فحققت مصلحتها . ومادام المعيار عبقرية المكان فان ماقيل أكثر اقناعا مما قال. ولو كان المعيار عبقرية الزمان لكانوا جميعا مخطئين .
على أى حال هذا مثل من خلاف فى ماهية دور مصر فى العالم العربى لانطيل فى سرد مفرداته أولا لانه مايزال قائما ، وثانيا لاننا شركاء فيه منذ بدايته مشاركة لم تنقطع الا مائة يوم كنا خلالها مع آلاف من شركاء الموقف ضيوفا على الحكومة فى أحد سجونها فلا نريد أن نفسد بحثنا عن المحددات الموضوعية لدور مصر الدولة فى العالم العربى بما قد يكون متأثرا بالتجربة الذاتيه . فنلفت فقط الى أن ” مصلحة مصر ” محدد واقعى موضوعى ثابت نسبيا لارادة عنصر الشعب فى دولة مصر يضاف الى المحددين الاخرين : سلامة الاقليم وكمال السيادة . أما ماهى مصلحة مصر فمحل خلاف بين الافراد والجماعات ومتغيرة من زمان الى زمان .

23- انطلاقا من واقع أن مصر دولة يتحدد دورها فى العالم العربى ، اذن ، بثلاثة حدود واقعية وموضوعية وثابته نسبيا . سلامة أرضها وسيادة شعبها ومصلحتها . وتترتب على هذا نتائج ذات أهمية حيوية بالنسبة الى كل الذين يهمهم أن يعرفوا أو يتوقعوا دورا لمصر فى العالم العربى . نعنى دولة مصر . وبالنسبة الى كل الذين يحاولون دفعها أو تحريضها أو اغرائها على أن تقوم فى العالم العربى بالدور الذى يتمنونه .
أولا: ان كل المشاعر العاطفة أو العاصفة ، كل الكلمات الرفيعة أو الوضيعة ، كل الحب أو السب ،وكل أسباب الاغراء أو الاغواء ، لن تحمل دولة مصر على أن تؤدى فى العالم العربى دورا لايتفق مع سلامة أرضها وسيادة شعبها ومصلحتها . وعلى العرب الذين يريدون لدولة مصر دورا فى العالم العربى غير ماتؤديه أن يحترموا دولة مصر ويحترموا لغتهم فيعفوا عن مغازلة الشقيقة الكبرى ويكفوا عن ابتذال عاطفة الاخوة وليتفكروا فيما أراد الله أن يعلمهم اياه حين قص عليهم نبأ أخوين من بنى آدم قتل أحدهما أخاه . لا. ان دولة مصر لاتقوم بأى دور فى العالم العربى الا اذا اقتنعت بأنه يصون سلامة أرضها . ويحفظ سيادة شعبها ، ويحقق مصلحتها ، أو ـ على الاكثر ـ لايضرها فى واحد من هذه المحددات الثوابت ضررا حالا أو مؤجلا
.. اما اذا وصل الامر حد مطالبة دولة مصر بأن تقوم بدور يصون سلامة أى أرض على حساب سلامة أرضها ، أو يحفظ سيادة شعب على حساب سيادة شعبها أو يحقق أية مصلحة على حساب مصلحتها فهو حلم وليس علما . والاحلام تبددها اليقظة ودولة مصر يقظة لاشك فى هذا .

ثانيا : لايصح أبدا . مهما تكن الظواهر الشكلية والدعاوى المضللة أن ينسب الى دولة مصر أى دور يمس سلامة أرضها ولو فى شبر ، وينتقص من سيادة شعبها ولو على متر ، ويضر مصلحتها بأى قدر فان وقع فهو دور الذين أدوه طوعا أو كرها ولو كانوا من أبناء مصر . ولو كانوا جيلا كاملا من شعب مصر . الاكراه معروف الاثر سواء كانت وسائله ظاهرة أم خفية . وبه لايكون الفاعل المباشر الا أداة فى يد فاعل ظاهر أو خفى . أما التطوع فهو خيانة لمصر عقوبتها ـ فى مصر ـ الاعدام كائنا من كان الفاعل ومن شاركوه تحريضا أو اتفاقا أو مساعدة . فلا يصح أن ينسب الى دولة مصر دور ينال من سلامة أرضها أو سيادة شعبها أو مصلحتها ولو كانت أدواته من أبناء مصر اذا كان الفاعلون الحقيقيون دولا باغية وكان المحرضون والمتفقون والمساعدون الذين حضروا المسرح للدور المنسوب الى دولة مصر منشورين أفرادا وجماعات وقوى واحزابا وحكومات وحكاما على أرض العالم العربى أو أرض العالم الغربى . ولايجدى فى اخفاء الادوار أن ينكر المجرمون أدوارهم .. نرجو الا يهرب هذا الذى نقول من دائرة الانتباه الجاد لدى كل الجادين لانه خلط خطير بين دور الجانى ودور المجنى عليه . خاصة وان قد ثبت أخيرا أن كثيرا من المنكرين كانوا متنكرين ، وقد سقطت الاقنعة وهم يزحفون الى المسرح ، او يقفزون اليه ، ليؤدوا ذات الدور الذى أنكروه واستنكروه باتقان فنى أكثر جاذبية من أداء الممثل الذى غاب وان كانت الرواية واحدة والمخرج واحدا .

ثالثا : ان دولة مصر ، مثل أية دولة عربية ، مثل أية دولة فى العالم ، عضو فى الاسرة الدولية فهى غير قادرة على أن تؤدى فى العالم العربى الدور الذى تختاره بعيدا عن قواعد وتقاليد وأحكام القانون الدولى . أو بعيدا عن توصيات وقرارات المنظمات الدولية . أوبعيدا ـ بوجه خاص ـ عن موازين القوى فى العالم . وانا لنعرف من أمر قواعد وتقاليد وأحكام القانون الدولى وتوصيات وقرارات المنظمات الدولية أنها غير ملزمة الا لمن يقبلها . ولكنا نعرف أيضا أن موازين القوة بين الدول ذات ثقل واقعى لاتحتمله دولة الا بقدر واقع ثقلها الخاص . وبالتالى فان دولة مصر لاتستطيع أن تؤدى فى العالم العربى دورا أكبر من طاقتها كدولة صغيرة فقيرة بالنسبة الى دول العالم الغنية الكبيرة . ومالاتستطيع دولة مصر أن تؤديه لايتوقع منها وولايطلب .

هذا هو المحدد لجغرافى الاقليمى المقنن دوليا وهذه هى نتائجه . استجابة وتطبيقا لهذا المحدد قال قائد ثورة 1919 سعد زغلول أن الدول العربية اصفار ، لا احتقار لها ولكن طبقا لمقاييس المكسب والخسائر التى تصيب مصر من علاقاتها بالدول العربية . لهذا يستثنى من تقييمه السودان حيث يملى النهر على مصر أوامر المحدد الجغرافى الاقليمى مع كل قطرة ماء تأتى من السودان . فيقول سعد زغلول نفسه عام 1924 ان مصر لاتكون حرة بدون السودان لان امتلاك السودان معناه التحكم فى مصر . وستتحطم كل جولات المفاوضات المصرية الانجليزية حول جلاء القوات البريطانية عن مصر ذاتها على صخرة السودان . ويصل الامر الى حد أن يقول مصطفى النحاس . تقطع يدى ولا يقطع السودان ، وهذا فى حين يصدر اسماعيل صدقى وزير داخلية مصر عام 1925 أمرا باعتقال الفلسطينيين الذين تظاهروا فى القاهرة ضد وعد بلفور الذى كان يهدد باقتطاع فلسطين من الجسم العربى . وتقف حكومة محمد محمود ضد الثورة الفلسطينية عام 1929 وتدينها وتكتب جريدة السياسة الناطقة بلسان حزب الاحرار الدستوريين مقالات متتابعة بقلم الدكتور محمد حسين هيكل يهدد فيها الفلسطينيين الذين يثيرون الرأى العام فى مصر . لقد كانت المفاضلة بين دور التأييد لثورة فلسطين وبين دور المحافظة علىالامن الداخلى لمصر فاختار المحدد الجغرافى الاقليمى الدور الثانى لمصر . وفى عام 1937 لايرى مصطفى النحاس زعيم حزب الوفد فى تحويل فلسطين الى وطن للصهاينة الا سببا لعدم الاطمئنان على سلامة اقليم دولة مصر فيقول أنه لايستطيع الاطمئنان وهو يفكر فى قيام دولة يهودية على حدود مصر اذ ماالذى يمنع اليهود من ادعاء حقوق لهم فى سيناء فيما بعد .ويبلغ تأثير المحدد الجغرافى الاقليمى فى صياغة دور مصر فى الوطن العربى أن تطرح حكومة الوفد خلال مفاوضاتها مع الانجليز عام 1950ـ 1951 فكرة اجلاء قوات الاحتلال البريطانى من مصر الى غزة . وتأتى ثورة 1952 فلا يرى عبد الناصر فى العالم العربى الا دائرة تحيط بمصر كما قال فى فلسفة الثورة . ان العالم العربى هنا هو العالم المجاور أو المجال الحيوى لمصر كما عبر عنه محمد ابراهيم كامل وزير خارجية السادات الاسبق وهو يحاور رئيسه خلال مفاوضات كامب ديفيد . على ضوء المحدد الجغرافى الاقليمى وليس علىضوء أى محدد آخر يفهم فهما صحيحا دور مصر فى ابرام سلسلة متتابعة من الاتفاقات مع من يريد من الدول العربية . ابتداء من اتفاقية الجامعة لعربية عام 1944 . واتفاق مصر وسورية والسعودية عام1953، الذى ستنضم اليه اليمن ، ومقاومة مصر لمشروع ايزنهاور وحلف بغداد . واتفاقيات الدفاع المشترك وتأليف أول قيادة عسكرية موحدة ة فى اكتوبر 1955. انها الدول المتجاورة جغرافيا تشترك فى الاعداد لتحقيق مصالح مشتركة كما تفعل كثير من الدول المتجاورة سواء أكانت عربية أو غير عربية . وعلى ضوء المحدد الجغرافى الاقليمى يفهم فهما صحيحا لماذا لم تقم مصر ولا أية دولة عربية بدور عسكرى هجومى ضد “اسرائيل” منذ أن قامت “اسرائيل” ، وكانت حروب تلك الدول عام 1956 وعام 1967 وعام 1973 حروبا دفاعية . ذلك لان دولة مصر ، وأية دولة عربية ليست الا جارة قريبة أو بعيدة عن أرض فلسطين . وعلى ضوء المحدد الجغرافى الاقليمى يفهم فهما صحيحا دور مصر والدول العربية جميعا فى قصر معركة تحرير فلسطين على استرداد الارض التى احتلت عام 1967 ولو مقايضة على الارض التى اغتصبت عام 1948 . لانها جميعا دول مستقلة بعضها عن بعض ومستقلة جميعا عن فلسطين . وما “اسرائيل” بالنسبة اليها ـ كدول ـ الا خطرا توسعيا يهدد حدود أقاليمها أو مصادر ثروتها . وعلى ضوء هذا المحدد الجغرافى الاقليمى صدق ماقلناه فى ابريل 1970 فى محاضرة القيت فى نقابة المحامين بعمان ” الاردن ” من أن الدول العربية منفردة أو مجتمعة لن تحرر فلسطين . وتحت نظرنا آية معجزة . أن شعبنا العربى البطل يقاتل منذ أربع سنوات دفاعا عن حدود دولته قتالا معبرا ـ من حيث الشجاعة والكفاءة ـ عن مدى أثر المحدد الجغرافى الاقليمى فى حجب هذه الشجاعة ووالكفاءة والبطولة عن أن تقوم بدور حاسم فى معارك تحرير فلسطين ..

ثم يأتى السادات فيتعامل بجسارة مذهلة مع هذا المحدد لجغرافى الاقليمى وحده ، غير متأثر بأى محدد غيره ، فيخوض آخر معركه مشتركة مع الدول العربية عام 1973 كتجربة أخيرة . وما أن تعبر القوات ال”اسرائيل”ية القناة فى اتجاه القاهرة حتى ينهزم هو فتنهزم التجربة فيملى عليه المحدد الجغرافى الاقليمى اتفاقيات كامب ديفيد املاء فرعونيا خالصا . “اسرائيل” جارة مصر الشرقية . “اسرائيل” دولة مجاورة لدولة . أثبتت الحروب المتعاقبة أن مصر الدولة غير قادرة على هزيمتها وفرض ارادتها عليها . فالبديل الدولى المتاح الذى يتفق مع كون مصر دولة هو أن تؤمن حدودها الشرقية بالصلح مع جارتها . هذا هو جوهر اتفاقيات كامب ديفيد وهو ليس من اختراع السادات . ان كل الفراعنة من قبل الفتح العربى حاربوا جيرانهم واصطلحوا معهم حسب متغيرات القوة النسبية فيما بينهم . وكلهم ، بما فيهم السادات ، كانوا يؤدون الدور الذى يتسق مع المحدد الجغرافى الاقليمى .

الذى اخترعه السادات هو أنه تجاوز مقتضيات هذا المحدد وانحاز الى المؤسسة الصهيونية ضد العرب ، فاعترف ب”اسرائيل” ، والاعتراف ب”اسرائيل” ليس موقفا محايدا بل هو انحياز الى الصهيونية . اذ أن الصراع العربى الصهيونى يدور منذ نصف قرن حول أرض فلسطين لمن تكون ومن صاحب الحق فيها ، الشعب العربى أم الشعب اليهودى . فمن يعترف أنها من حق الشعب اليهودى يكون قد أنكرحق الشعب العربى . وليس ثمة موقف وسط كائنا من كان الذى يعترف ب”اسرائيل” وكائنة ماكانت الاسباب التى ينتحلها .

ثم أنه قبل زيارة السادات للقدس يوم 19 نوفمبر 1977 كانت الضغوط الدولية لم تتوقف منذ يونيو 1967 قد انتهت الى اسلوب يحفظ ماء وجه الدول العربية ويجمعها مع “اسرائيل” على مائدة مفاوضات دولية تعقد فى جنيف . وكان ل”اسرائيل” شرط هو أن تبدأ المفاوضات بدون شروط مسبقة . تلك كاانت أمنية “اسرائيل” الى ماقبل شهر واحد من الموعد الذى كان محددا لانعقاد مؤتمر جنيف . وفجأة زار السادات القدس فقبرت كل الجهود الدولية التى بذلت من أجل الوصول الى صيغة مؤتمر جنيف . ثم عقد السادات اتفاق كامب ديفيد المسمى اطار السلام فى الشرق الاوسط ووضع مع الصهاينة الشروط المسبقة لاية مفاوضة ..

تقول الوثيقة تحت العنوان الفرعى ” المبادئ المرتبطة ” أنه يجب ـ ليس على مصر فقط ـ بل على مصر والاردن وسورية ولبنان أن يعترفوا ب”اسرائيل” اعترافا كاملا ، وأن يلغوا المقاطعة الاقتصادية ، وأن يقيموا معها علاقات طبيعية ، وأن يستكشفوا معها امكانية التطور ألآٌقتصادى فى اطار اتفاقية السلام النهائية بهدف المساهمة فى صنع جو السلام والتعاون والصداقة .
هذا هو الدور الذى اخترعه السادات متجاوز المحدد الجغرافى الاقليمى المقنن فى دولة مصر . اذ أن هذا المحدد لايخول مصر حقا فى أن تنظم الحياة على غير اقليمها ، ولا أن تنوب عن شعب غير شعبها ، ولا أن تشترى مصلحتها بمصلحة غيرها. وانى لعلى يقين من أنه لو كان السادات قد بقى فى نطاق المحدد الجغرافى الاقليمى وهو يؤدى الدور الذى اريد له على مسرح كامب ديفيد وقصر اتفاقياته على دولة مصر بحدودها اقليما وسيادة ومصلحة لاعتبرت كل الدول العربية ، علنا أوخفية ، أنه لم يفعل شيئا غير الذى يفعلونه هم . ولتذكروا جميعا أنهم قد سبقوه الى التعهد فى الدار البيضاء على الا تتدخل دولة عربية فى شئون دولة عربية أخرى .

ا ذا استبعدنا الاختراعات والنزوات والاساليب الغريبة فى الاداء ، يبقى أن ماهوجوهرى فى الدور الذى أداه السادت فى العالم العربى ليس اختراعا ولانزوة ولاغريبا بل هو ترجمة دقيقة وحرفية لدور مصر فى العالم العربى كما يفرضه المحدد لجغرافى الاقليمى المقنن فى دولة مصر .على هذا الوجه نفهمه فهما صحيحا ، ونفهم ان كثيرين ممن وقفوا ضد السادات لم يقفو ضد نتائج المحدد الجغرافى الاقليمى ولكن ضد أسلوب أنور السادات فى الاستجابة الى هذا المحدد وترجمته فى اتفاقيات . باختصا ر أنهم كانوا ومايزالون ضد شروط الصفقة ومدى ملاءمتها لمصلحة مصر ولم يكونوا ضد الصفقة ذاتها .

مصر العربية :

24- فى مواجهة المحدد الجغرافى الاقليمى لدور مصر فى العالم العربى ثمة المحدد التاريخى القومى : مصر جزء من الامة العربية . ان الدور الذى يحدده انتماء مصر القومى ليس فى حاجة الى حديث طويل . فالاقليم ليس مصر الواقعة فى الشمال الشرقى من أفريقيا بل الوطن العربى كله بما فيه مصر . والمصلحة ليست مصلحة مصر ولكن مصلحة الامة العربية كلها بما فيها مصلحة مصر. وبه يصبح تحرير الوطن العربى كله من المغتصبين والمستعمرين والمسيطرين دورا لمصر . وبه يصبح الغاء تجزئة الوطن العربى واقامة دولة الوحدة تجسيدا لسيادة الشعب العربى على وطنه دورا لمصر . وبه تصبح المحافظة على ثروات الوطن العربى بما فيها مايوجد فى مصر ، وتوظيفها فى خدمة تقدم الشعب العربى كله اقتصاديا واجتماعيا وروحيا دورا لمصر . وبه يصبح ثقل مصر فى موازين القوة الدولية هو ثقل الامة العربية . وبه لن تكون اسرئيل جارة خطرة لمصر تردع أو تقبل ، بل تكون فلسطين أرضا مغتصبة من مصر العربية ويكون على الصهاينة أن يرحلوا منها سلما أو حربا .

ولكن أى مصر هذه ؟

انها مصر الشعب العربى وليست مصر الدولة . ولقد عرفنا من قبل مدى مايستطيع الشعب فى الدولة . ولكنا عرفنا أيضا أن الشعب العربى فى مصر ليس راكدا . ان نسيج أمته يشده اليها وتراث أربعة عشر قرنا يصوغ فكره وتقاليده وآدابه . وهو لم يكف ولايكف عن مقاومة العزلة والانعزال وصياغة دور مصر فى الوطن العربى كلما استطاع أن يفلت من حصار مصر الدولة .أو كلما تركته الدولة بدون حصار . فنراه ولم يزل يقوم بدوره الحضارى على مستوى الوطن العربى كله علما وتعليما وثقافة وفن وتعبيرا . ان 35% من القوى العاملة المؤهلة فى الوطن العربى من مصر . ومايزل الازهر فى مصر . ونصف خريجى الجامعات العربية من خريجى جامعات مصر . أنه المحدد الذى يحمل عشرات الالوف من أبناء مصر الى أطراف الوطن العربى راغبين ثم يقف بهم عند حدوده . لايعبرون العراق لى ايران ، ولايعبرون سورية الى تركيا. ولايعبرون السودان الى الحبشة . ولايعبرون المغرب الى اسبانيا ، مهما تكن المغريات ، خوفا من الشعور بالغربة التى لايشعرون بها فى الوطن العربى . انه المحدد الذى أفشل القطيعة العربية فلم يشعر أحد فى مصر بأن قطيعة الدول قد أثرت فى عدد الوافدين الى مصر من أطراف الوطن حيث القاهرة عاصمتهم قبل عواصمهم.

انه المحدد الذى دفع بالقادرين من مصر الى القتال عام 1912 دفاعا عن ليبيا ضد الغزو الايطالى . الذى حرك جماهير مصر احتجاجا على وعد بلفور . الذى أملى على المرحوم الشيخ حسن البنا المرشد العام للاخوان المسلمين أن يرد على طه حسين بأن من يحاول سلخ قطر عربى من الجسم العام للامة العربية يعين الخصوم الغاصبين على كسر شوكة وطنه واضعاف قوة بلاده .. ويحمل مصطفى النحاس زعيم الوفد على أن يوفد عبد الرحمن عزام مندوبا عنه الى المؤتمر الاسلامى الذى انعقد فى القدس عام 1931 ليشارك فى قرار الدعوة الى توحيد البلاد العربية واستنكار تجزئة فلسطين . والذى عبر عنه مكرم عبيد سكرتير حزب الوفد حينما كتب فى مجلة الهلال عام 1939 مقالا يدافع فيه عن عروبة مصر بعنوان المصريون عرب . وهو المحدد الذى حمل حكومة الوفد على أن تمنع سفر العمال من مصر ليحلوا محل العمال فى فلسطين خلال ثورة 1936 . وهو المحدد الذى دفع بالمتطوعين من مصر فسبقوا دولتهم الى أرض المعركة فى فلسطين عام 1948 . المحدد الذى منع الدكتور محمد صلاح الدين وزير خارجية مصر عام 1950 من أن يقبل الصلح مع “اسرائيل” فى مقابل جلاء القوات البريطانية من مصر . . المحدد لذى أوحى الى عبد الناصر عام 1956 أن يسمى قناة السويس قناة العرب . ولقنه عام 1957 ماقاله امام مجاس الامة : “ان القومية العربية هى امضى اسلحتنافى الدفاع عن وطننا سواء فى ذلك حدودنا المصرية أو حدودنا العربية الشاملة” وسمح له بأن يرسل قوات من مصر الى سورية . وأن يحقق الوحدة بين مصر وسورية عام 1958 اذا كان العالم قد عاش من قبل عصر النهضة ثم عاش بعد ذلك عصر الفضاء فاننا نعيش اليوم عصر الوحدة العربية . انه المحدد الذى فتح الطريق امام مصر لتساند بالبشر والمال والسلاح والسياسة حركات التحرر العربى فى كل قطر عربى ، تحمل قواتها لتقاتل على قمم جبال اليمن . وهو المحدد الذى وثقه الشعب العربى فى مصر فى دساتيره المتتابعة منذ 1956 : مصر جزء من الامة العربية . ثم ترجمه الى دور فى الوطن العربى فأضاف فى دستور 1971 : ويعمل شعبها على تحقيق وحدتها الشاملة ، فألزم دولته وحكومته بأن تؤدى هذا الدور أو تسمح للشعب بأن يؤديه . وأخيرا هو المحدد الذى مايزال يدفع جماهير مصر الى محاصرة اتفاقيات كامب ديفيد وافشالها بالرغم من انها اصبحت قانونا من قوانين دولته ، ويلغى منها كل النصوص التى يتوقف نفاذها على قبول الشعب مثل التطبيع والصداقة والكف عن مناهضة الصهيونية .

(5) المشكلة

الازد واج:

26- لقد أردنا أن نثبت بالامثلة السابقة أن دور مصر فى العالم العربى متردد بين قوتى جذب أحدهما اقليمى والاخر قومى . وان هذا التردد قد أدى الى أن مصر بقيادة ذات الحكام تؤدى أدوارا متناقضة فى الظروف المختلفة . وبالتالى نستطيع أن ننتهى الى عدة معطيات خاصة بدو ر مصر فى العالم العربى :

أولا : ان لمصر دورا ايجابيا دائمافى العالم العربى سواء التزمت المحدد الجغرافى الاقليميى حيث العالم العربى هو الدول المتجاورة والمجال الحيوى . أو التزمت المحدد التاريخى القومى حيث العالم العربى هو عالم الامة العربية التى هى ـ أىمصر ـ جزء منه تاريخيا ومصيريا . وبالتالى فان عزل مصر أو انعزالها عن العالم العربى مستحيل. ويكون من العبث الواهم محاولة انعزالها او تصور مستقبل عربى بدون دور لمصر أو مستقبل مصرى بدون دور عربى . لن يحدث هذا دوليا الا قهرا وحين تفقد الدولة ارادتها ، ولكنه لن يحدث شعبيا ولو بالقهر ولو فقدت الدولة ارادتها .

ثانيا : ان تأثير المحدد التاريخى القومى على دور مصر فى العالم العربى أقوى من تأثير المحدد الجغرافى لاقليمى . لايرجع هذا الى مقدرة الشعب العربى فى مصر على أن يفرض على دولته الادوار التى يؤديها ولكن يرجع الى التقاء المحددين المتناقضين على مضامين مصلحة مصر فى المدى الطويل . ذلك لان ماتعتبره دولة مصر مصلحة مشتركة بينها وبين العالم العربى هو فى حقيقته الموضوعية مصلحة واحدة ، بصرف النظر عن مصالح الحكام . وهو مااكتشفه عبد الناصر من خلال الممارسة وهو يناضل من أجل تحقيق مصلحة مصر . أراد أن يحرر الوطن المصرى فوجد أنه لايستطيع ذلك الا اذا تحرر الوطن العربى ، فتحول من قائد تحرر مصرى الى قائد تحرر قومى واعترف بهذا فى محادثات الوحدة الثلاثية عام 1963 فقال أن الثورة قد بدأت اقليمية ثم تحولت من خلال الممارسة لى ثورة قومية .

ثالثا : ان المحدد الجغرافى الاقليمى يقاوم ، وبضراوة فى بعض الاوقات ، لكنه فى النهاية سيتسلم حين تثبت الممارسة للاقليمين انفسهم أن الوحدة اضافة الى دولتهم وليست انتقاصا منها . وطن أكبر وشعب أكثر ومصالح أرقى وثقل دولى يفوق ثقل مصر منفردة بمراحل . وقد يدفعهم الى الاقتناع مجرد انقضاء عصور الدول والدويلات على المستوى العالمى ودخول العالم عصر التكتلات الكبيرة .

اين المشكلة اذن ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

المشكلة هى أن ازدواج المحددين الموضوعين ، مصر دولة ، ومصر جزء من الامة العربية ، وتناقضهما فى الوقت ذاته يحول بين مصر وبين القيام بدور استراتيجى فى العالم العربى . أما على المستوى التكتيكى أو المرحلى فيبقى دورها مترددا بين قوتى جذب المحددين . صحيح أن نوع القيادة ذو أثر لايستهان به ولكنه ليس حاسما . لم يكن فى أى يوم حاسما ، ولن يكون فى أى يوم حاسما ، فما أن تتجه مصر الى أداء دورها التاريخى انطلاقا من أنها جزء من الامة العربية حتى ترتد الى اداء دورها الجغرافى استجابة لكونها دولة اقليمية ، ويؤثر هذا التردد تأُثيرا سلبيا مدمرا لمقدرة مصر على أداء أى الدورين بالكفاءة التى هى قادرة عليها . فما يبنى على الطريق القومى لايلبث يهدم على طريق الردة الاقليمية. ومايشيد على أسس اقليمية لايلبث حتى ينهار لتقوم بدلا منه أسس قومية . وهكذا تبدد طاقة مصر الفكرية والاقتصادية والسياسيةوالعسكرية والمعنوية أيضا لان مصر الدولة ، تحت أى حاكم غير قادرة على الانعزال عن مصيرها القومى ، ومصر الشعب تحت أى قيادة غير قادرة على الافلات من أسر دولتها.

ونكرر مرة اخرى أن مايصح بالنسبة الى مصر يصح بالنسبة الى أية دولة عربية
وقد ظنت الدول العربية منذ أن أًصبحت دولا أنها قادرة على تجاوز أزمة التناقض بين الحصر الاقليمى فى دول متعددة والانتماء القومى الى امة واحدة يصبح التعاون أو التحالف أو التضامن أو المشاركة على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والاعلامية والعسكرية والدولية . وهو ممكن بل أنه الممكن الوحيد بالنسبة الى الدول العربية . ولكن هذا الممكن لايحل المشكلة التى تعانى منها مصر كما تعانى منها الدول العربية جميعا. أعنى العجز المحتوم عن التعاون أو التضامن .. الخ لتحقيق أهداف استراتيجية .

أولا : لان التضامن بين الدول العربية بصيغه المتعددة من أول الاتفاقات الثنائية الى الجامعة العربية نوع من الصيغ ” الجبهوية ” التى يلتقى فيها المختلفون أصلا لمواجهة خطر واحد مشترك أو لتحقيق غاية واحدة مشتركة . هذه الصيغة ـ نعنى الجبهة ـ لها قوانينها الى لاحيلة لأحد فيها ، وهى أنها تتم وتبقى على مستوى الحد الاقصى لمصلحة أدنى الاطراف مصلحة . وهو مايعنى أن التضامن بين الدول العربية يتوقف أثره ومصيره على ارادة الدولة الاضعف من بين أطرافه .اذا كان بين كل الدول العربية كما هو الحال فى الجامعة العربية فانه سيتم ويحقق من النجاح مالا يتجاوز ماتريده أضعف دولة عربية . ولم يكن اتفاق الدول العربية على أن تصدر قرارات الجامعة العربية بالاجماع الا استجابة واقعية ومنطقية لهذا القانون . فى الوطن العربى دويلة تعيش منذ وجدت على ذكاء حاكمها اذ ليس لوجودها أى مبرر آخر . وحاكمها كان ولم يزل من أكثر حكام العرب ذكاء . أدهشنى أن قد دعا أخيرا الى أن تكون قرارات الجامعة العربية نافذة اذا وافقت عليها الاغلبية . فقلنا خانه الذكاء والحمد لله . ليتهم يستجيبون وسيرى هذا الحاكم وغيره أن قد فتح باب قرارات تتالى صادرة من ” الاغلبية ” بالغاء الوجود المستقل للكثير من الدويلات وعودتها الى الوضع الذى كانت عليه قبل انشائها المصطنع . ومن يدرى لعل أول قرار سيصدر بتوحيد اقليم الشام والغاء الوجود المستقل لبعض أجزائه التى أصبحت دولا عليها حكام اذكياء أو أغبياء ، فيحمد الشعب العربى الله على أن قلل العدد فزادت البركة .

أما اذا كان التضامن أو التحالف …. الخ بين بعض الدول العربية فقد يحقق نجاحا أكبر ولكنه يظل مرتبطا بأضعف اطرافه . وقد تؤدى جبهة بين عدد محدد من الدول العربية الى قيام جبهة اخرى ، أو جبهات اخرى من دول محددة أخرى . وهذا يعنى أن العجز عن تحقيق هدف استراتيجى قد أصبح عداء ، أو فلنقل منافسة ، بين أهداف مرحلية مختلفة . وليس من المستبعد أن تكون مناهضة آمال الشعب العربى أو فى التحرر والوحدة والتقدم من بين تلك الاهداف . اذ ليست العبرة بما يتضامنون على تحقيقه ويتحالفون من أجل الوصول اليه ويلتقون عليه . وهم لايلتقون دائما على خير . الا نرى أنهم لم يتضامنوا ويتحالفوا ويلتقوا على شئ واحد ثابت الا الابقاء على تجزئة الامة العربية .

ثانيا : اما القانون الثانى للعمل الجبهوى فهو أنه مؤقت بحيث يعجز تماما عندما يكون مطلوبا منه مواجهة مشكلات استراتيجية تخطيطا وتنفيذا وتعبئة تمتد زمانا طويلا أو زمانا غير محدود مثل مشكلة استرداد فلسطين المغتصبة ، أو مواجهة مشكلات متجددة ابدا مثل مشكلات التنمية الاقتصادية والاجتماعية . فى أول فرصة تجد أية دولة عربية أن” أرباح” التضامن أقل من ” تكاليفه ” ، على أى مستوى ، تفلت وينهار التضامن جزئيا أو كليا . وللدول العربية فىهذا تجارب مرة . لقد انهارت كل صيغ التعاون الاقتصادى والعسكرى التى انشئت فى نطاق الجامعة العربية أو خارج نطاقها بقرارات منفردة أو ثنائية أو حتى جماعية .( المجلس الاقتصادى المشترك ـ اتفاقية الوحدة الاقتصادية بأجهزتها ـ مجلس الوحدة الاقتصادية ـ اللجان الدائمة ـ المكتب الفنى الاستشارى ـ السوق العربية المشتركة ـ صندوق الانماء الاقتصادى والاجتماعى ـ اتفاقيات الدفاع المشترك ـ اتفاقيات الوحدة . وأخيرا القرار الذى صدر بالاجماع لاتفاوض ولاصلح ولا اعتراف ب”اسرائيل” ).

هل يعنى هذا أن كل تلك الصيغ من التعاون الى التضامن عبث؟.. أبدا . انها ليست عبثا . فهى تقاليد قديمة ومتكررة فى العلاقات فيما بين الدول ” المستقلة ” . فحينما تتفق الدول العربية أو تتعاون أو تتضامن فهى تفعل هذا لاباعتبار أقطارها اجزاء من الامة العربية ، أى ليس استجابة للمحدد التاريخى القومى. ولكن باعتبارها دولا مستقلة أى استجابة للمحدد الجغرافى الاقليمى . فنستطيع أن نقول مطمئنين أن هذه الصيغ الجبهوية تكريس لفاعلية المحدد الجغرافى الاقليمى ، واضعاف معتمد أو غير معتمد لفاعلية المحدد التاريخى القومى .
هذا بالنسبة الى الامة العربية ومصيرها الواحد ، أما بالنسبة الى الدول العربية أطراف التعاون أو التضامن أو أعضاء الجامعة العربية فقد تكون صيغا مفيدة على المدى القصير . ومادامت على المدى القصير فانها لن تحل مشكلة أية دولة فيها . أعنى المشكلة موضوع الحديث . لن تسمح تلك الصيغ لاية دولة متعاونة أو متضامنة أو عضو فى الجامعة العربية بأن تحدد لذاتها دورا استراتيجيا فى الوطن العربى يتفق مع انتمائها القومى الى الامة العربية . ولن تحميها من فاعلية هذا الانتماء فى افشال خططها الاقليمية . وتبقى كما هى مترددة بين حدين متناقضين ، وستظل تهدر طاقتها البشرية والمادية فى بناء ماستهدمه وهدم مابنته .

( 6 ) الحـــــل

الوحدة:

هل لهذه المشكلة حل أو حلول ؟ أولا ، ليس لاية مشكلة الا حل صحيح واحد فى زمان معين . هكذا قال منذ قرون الفيلسوف العربى ابن الهيثم ، وهكذا تقول كل المذاهب العلمية الحديثة التى تسلم بأن للواقع الموضوعى حقيقة واحدة بصرف النظر عن اختلاف الناس فى أمره . أن يختلف العرب فى معرفة الحل ويدعى كل صاحب رأى أن رأيه هو الصحيح فقد يكونون كلهم مخطئين ، ولكن المستحيل أن يكونوا جميعا صائبين أو أن يكون ثمة رأيان صائبان ومختلفان فى الوقت ذاته . هذه قضية منهجية أولية مالم يدركها ونلتزمها فستضيع حياة أجيال كثيرة فى محاولات تلفيق حلول لمشكلة واحدة .

أما الحل الصحيح فى رأينا فهو دولة الوحدة . دولة واحدة لامة واحدة . أى ايقاف والغاء تلك الردة الغبية الى الماضى حيث كانت الشعوب شعوبا متجاورة يخضع كل منها لمحدد الجغرافى . لن تتحرر دولة عربية وان تحررت لن تحتفظ بحريتها ، ولن تتقدم الحياة فى دولة عربية وان تقدمت فبالممكن الاقليمى القليل وليس بالمتاح القومى الكثير ، ولن تسترد الارض المغتصبة واذا استرد بعضها فلن يكون الا بشروط الغاصبين …. مالم يتحرر الشعب العربى من تلك المؤسسات السجون التى تسمى الدول العربية . ان لكل دولة عربية ، بما فيها مصر ، دورا فى الوطن العربى ، هذا لاشك فيه ، ولكن لن تستطيع أية دولة عربية ، بما فيها مصر ، أن تقوم بدور استراتيجى يتفق مع كونها جزء من أمة واحدة الا فى دولة الوحدة . من كانت له اذنان فليسمع ، ومن كان له عقل فليعقل . ومن كانت له تجربة فليعتبر .

ولكن كيف الوحدة ؟

هذا سؤال مشروع . وهو يستمد مشروعيته من موقف صاحبه . فكل الذين استمعوا وعقلوا واعتبروا وحرقوا مراكب الاقليمية فهم يريدون أن يعرفوا كيف يعبرون التجزئة الاقليمية الى مصر الوحدة من حقهم أن يسألوا هذا السؤال . كل الذين يريدون أن ينهوا الازدواج والتردد والتناقض فى سياساتهم من حقهم أن يسألوا هذا السؤال . كل الذين لايريدون أن يعيشوا فى القرن العشرين خاضعين لما خضع له الاشوريين والفراعنة والكنعانيون .. الخ وأن يعيشوا عربا من حقهم أن يسألوا هذا السؤال . وعلى كل من يدعو الى الوحدة أن يعرف اجابة هذا السؤال وأن يقبل مناقشتها وتعديلها واستبدالها باجابة اخرى … وأما الذين ليس من حقهم أن يسألوا السؤال: كيف الوحدة ولايستحقون الاجابة عليه فهم اعداؤها الذين يستهدفون من وراء السؤال التشكيك فى الوحدة . ومن مظاهر التشكيك التى لاتخفى على أحد قبولهم ورضاهم الحياة فى أسر دولهم الاقليمية بل والتنافس على الاستيلاء عليها وحكمها .

أما المنافقون فيجيبون على السؤال : كيف الوحدة ؟ جوابا مستحيلا ، حتى يظلوا غير متهمين فى قوميتهم وغير قوميين فى الوقت ذاته . ولقد قال الله تعالى عن المنافقين :” واذا قاموا الى الصلاة قاموا كسالى “( النساء :142) أى أنهم يصلون !!!! ثم انذرهم بما هو أسوأ من مصير الكافرين فقال:” ان المنافقين فى الدرك الاسفل من النار”( النساء : 147) . قياسا على منطق الايات الكريمة نقول أن المنافقين هم اولئك الذين لاينكرون الوحدة ولكنهم لايناضلون نضالا غير كسول من أجل تحقيقها . وأن مصيرهم فى دولة الوحدة سيكون انكى من مصير الاقليمين أنفسهم . ومن المنافقين من يزعم أن الوحدة تقوم اتفاقا بين الدول العربية ,. وهو محال .

جرب هذا الحل بالذات عام 1958 وعام 1963 وعام 1971 وفشل فى كل تلك التجارب فانفصمت الوحدة وتحول الاخوة الى أعداء . وكل وحدة على هذا النمط تنفصم طال الزمن أو قصر . حسنت النوايا أو ساءت . ذلك لانه محال فى الوطن العربى وكان محالا على مدى التاريخ منذ انتهاء عهد الامبراطوريات ، ومحال على مدى اتساع الكرة الارضية أن تتحقق الوحدة اتفاقا بين دولتين . لاأريد أن أستطرد فى بيان أسباب الاستحالة ، فمنذ ربع قرن ، وكلما لاحت تجربة جديدة ، حذرت فى كتب ومقالات منشورة من وهم مقدرة رؤساء الدول على الغاء دولهم ذلك ان الوحدة القائمة على اسس قومية ليست جمعا بين دولتين ، ولكنها الغاء لدولتين أو أكثر لاقامة دولة واحدة على انقاضهما أو انقاضها . وعندما يتقدم ممثلوا كل دولة الى مائدة المفاوضات من أجل الوحدة ، يتفاوضون ، يتساومون، يتفقون ، ثم يرجع كل واحد الى دولته ليحصل على تصديقها على هذا الاتفاق . هنا يواجهون المحال . كيف يمكن لاية دولة أن تصدق على اتفاق يلغى شرعية وجودها المستقل . انهم فى اللحظة التى يقبلون فيها يفقدون شرعية تمثيلهم للدولة . بعض الحكام استطاعوا ويستطيعون أن يفعلوا هذا بدون توقف على ماتأذن به الشرعية . ولكن هذا لايعنى أنهم وهم يحققون الوحدة كانوا يمثلون دولهم ولكن يعنى أنهم يثورون ضد دولهم ذاتها من أجل هدف يؤمنون بأنه مصدر الشرعية أو المصدر الوحيد للشرعية لابأس بهذا على أن نتذكر أن الوحدة هنا متحققة بارادة الثورة ضد الدولة الاقليمية وليس اتفاقا بينها وبين دولة اقليمية اخرى ، هذا ـ طبعا ـ عندما يكون القرار الوحدوى صادرا من ممثل لدولة توافرت لها كل عناصر الدولة فهو ثورة عليها ، وليس كل قطر من الوطن العربى يسمى مجازا ” دولة ” هو فى الحقيقة دولة ، فى اقطار عربية كثيرة تسمى دولا يستطيع الحاكم فيها أن يفعل مايشاء بمصير القطر الذى يحكمه حكما فرديا . هنا يمكن أن يذهب الحاكم بقطره الى الوحدة مع قطر آخر بدون عناء كثير ، ولكن كثيرا من الوحدويين ـ ونحن منهم ـ لايباركون الحكم الفردى ولايشجعونه ولو من أجل الوحدة ، لانهم يعرفون العائد السلبى على ايمان الجماهير بالوحدة عندما تقترن بالاستبداد .
ان القوميين ، أى الذين يحتفظون بكامل ولائهم للشعب العربى وحده ، لايقبلون الوحدة العربية لوضع الشعب العربى كله موضع التبعية لاية قوة خارجية . ولايقبلونها من أجل اجتماع الفقراء المتخلفين فى دولة التخلف والفقر ، ولايقبلونها من أجل أن يكون الشعب العربى كله عبيدا لمستبد واحد ،لا.

اننا نعرف تماما أن المستعمرين يتمنون لو أنهم وحدوا الامة العربية تحت سيطرتهم ، وأن كل حاكم فى دولة عربية يتمنى لو توحدت الامة العربية فى امبراطورية هو امبراطورها ،وأن كثيرا ممن يدعون الى الوحدة لايربطون بينها وبين التقدم والرخاء ، وأى مستبد يتمنى لو كان كل البشر عبيدا له . هذا كله معروف لايجهله الا الذين ينخدعون بالدعوة الى الوحدة المجردة من مضامينها التحررية والتقدمية والديموقراطية . وليس القوميون من بين اولئك الجهلة . ان انتماءهم الى امتهم وولاءهم لشعبها يحددان لهم هوية الوحدة التى يريدونها. انها الوحدة العربية من أجل تحرر وتقدم وسيادة الشعب العربى فى دولته القومية . وهى لن تكون كذلك ابدا الا اذا حققها الشعب العربى نفسه على مايريد . ثم لماذا الوحدة فى قبضة الاستعمار ، أو اليأس من التقدم والرخاء ، أو مذلة العبودية لمستبد ان كل هذا متوفر بأكثر مما يطيق الشعب العربى فى ظل التجزئة الاقليمية . ولانقول الحمد لله الذى لايحمد على مكروه سواه ، بل نذكر ماقاله تعالى:” ماأصابك من حسنة فمن الله وماأصابك من سيئة فمن نفسك ” (النساء: 79).

عند الشعب العربى اذن الجواب الصحيح على السؤال : كيف الوحدة العربية .

وليس مطلوبا من أية دولة عربية الا أن ترفع يد القهر عن الشعب العربى فيها ليقدم جوابه وينفذه . سيقدمه ان كان واعيا وحدة امته ووحدة مصيرها . وسيقدمه استجابة لشعوره بالانتماء الى أمة واحدة . وسيقدمه من خلال الممارسة حينما يكتشف بنفسه ان مشكلات تحرره وتطوره وتقدمه مشكلات قومية موضوعيا فلن تحل الا بوسائل قومية لاتوفرها الا دولة الوحدة . بل سيقدمها من خلال حتى فشل الدول العربية ذاتها فى الوفاء بوعود التحرر والرخاء والتقدم التى ينثرها حكامها . وسيتجه الى الوحدة مبتدئا من واقعه فيحققها فى ذاته اولا بالالتحام المنظم مع الشعب العربى فى الدول الاخرى وتجسيد هذا الالتحام فى منظمات قومية .ليس قومية المواثيق المكتوبة والشعارات الرنانة بل قومية التكوين والحركة . وبناء حزبه القومى التقدمى الذى يقود الشعب العربى الوحدوى فى كل الدول فى مواجهة كل الدول الى أن يلغى دولتين على الاقل فيقيم دولة الوحدة النواة . دولة العرب . ثم ـ وهذا على اكبر قدر من الاهمية ـ يزحف وحدويا ولايبتوقف مهما طال الزمان الى أن تتحقق الوحدة العربية ديموقراطيا .

ديموقراطيا ؟

نعم ديموقراطيا . اذ الديموقراطية هى اسلوب الشعوب فى تحقيق اهدافها أما اسلوب الغاء الدول الاقليمية لحساب دولة الوحدة النواة أو الشاملة فهذا متروك لحكامها وما اذا كانوا سيخضعون لارادة الشعب أم يقاومونه . ان خضعوا كما فعل عبد الناصر والقوتلى عام 1958 فلا مشكلة وان قاوموا فسيكونوا هم المسئولين عن أى اسلوب يلجأ اليه الشعب من أجل تحقيق الوحدة .

هل هذا ممكن ؟ نعم ممكن موضوعيا . ولكن الدول الاقليمية هى التى تحول بين الشعب العربى وبينه بالرغم من أنه سلمى واصلاحى أيضا . وهكذا تدفع الدول الاقليمية الشعب العربى دفعا ، وتلجئه الجاء . وتحرضه تحريضا ، على أن يسلك الى وحدته طريق الثورة العربية الشاملة : وحديث الثورة العربية الشاملة لايهم الا القادرين عليها وبالتالى لايفيد أحدا فى حديث موجه الى الكافة فلنتركه لاصحاب الحق فيه .

الخلاصة انه اذا كانت مصر تريد أن تحرر ارادتها من التردد بين المحدد الجغرافى الاقليمى والمحدد التاريخى القومى ، وتحافظ على وحدة طاقاتها فلا تبددها ، ,تلعب دورا استراتيجيا فى الوطن العربى فلنترك للشعب العربى فيها حرية ” العمل” من أجل تحقيق الوحدة العربية ولو احتراما لدستور مصر الذى حمل الشعب ، وليس الحكومة ، مسئولية العمل على تحقيقها فى مادته الاولى . واذا صح مايقال من أن رحلة الالف ميل تبدأ بخطوة وكانت الوحدة العربية كشرط لقيام مصر بدور استراتيجى فى العالم العربى يتفق مع كونها جزءا من الامة العربية هدفا بعيدا ، وهو بعيد فعلا ، فان الخطوة الاولى اليه ممكنة بقدر ماهى لازمة . انها حرية الشعب فى أن يفرض ارادته ويحقق مصيره . انها الديموقراطية .

وكما يصدق كل هذا على مصر يصدق على كل قطر عربى . ولكن مميزه أنه حتى فى ظل الديموقراطية لن يستطيع أى شعب عربى فى قطر واحد أن يخطو وحده نحو الوحدة ولو كان الشعب العربى فى مصر . ومن هذا نعرف أن تحقيق دور قومى لمصر فى الوطن العربى ليس مسئولية دولتها ، ولاحكومتها ولاحتى الشعب العربى فيها وحده ، بل مسئولية الشعب العربى فى كل الاقطار . وماكان لمصر الدولة أن تكون اقليمية الا لان الوطن العربى مقسم الى دول اقليمية بدون فائض قومى ومن كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.

- المؤتمر الخامس عشر لاتحاد المحامين العرب

تنويه الاعلام المركزي : القائمون على تشغيل وسائل التواصل الاجتماعي لا يخجلون من خضوعهم لارادة الاحتلال الصهيوني وتعليماته التي تجعلهم ليسوا أكثر من أداة رقيب احتلالي عسكري للكيان الصهيوني الاحتلالي والعنصري (الابرتهايد) تويتر بعد يوتيوب يوقف حساب التيار والحجة ذاتها


الموقع الرسمي - الاعلام المركزي - مفوضية الشؤون االاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

1 من الزوار الآن