تيار المقاومة والتحرير - الموقع الرسمي

قوَات العاصفة- شبكة الجرمق

الصفحة الأساسية > الشؤون القومية > من نظرية الثورة العربية

من نظرية الثورة العربية

السبت 13 تشرين الأول (أكتوبر) 2018

د.عصمت سيف الدولة

- الوجود القومي :

إن أية محاولة ” لتغيير الواقع ” على ضوء التسليم بأن الانسان هو العامل الاساسي في عملية التغيير تفرض علينا أن نبدأ بتحديد واقعنا البشري من خلال الاجابة عن السؤال : من نحن ؟ .. نحن مجتمع من البشر . إذن . فما هو مجتمعنا ؟. وعندما نعرف من نحن وماهو مجتمعنا لن تكون عملية التغيير تجريداً . لن تكون هناك مشكلات بل مشكلاتنا ، ولن تكون هناك قوى بل قوانا ، ولن تكون هناك معركة بل معركتنا ، ولن يكون هناك اعداء بل أعداؤنا ، ولن تكون هناك حرية بل حريتنا … الخ . كل شيء سيكون أكثر وضوحاً وتحديداً لأنه منسوب الى مجتمع واضح ومحدد .
فما هو مجتمعنا الذي ننتمي اليه .
أسهل الاجابات وأقربها الى الذهن هي : أن مجتمعنا محدد ” بالدولة ” التي نحن رعاياها . فلكل دولة شعب معين ، ووطن معين ، وواقع اجتماعي واقتصادي معين ، ومشكلات معينة … الخ . ذلك هو ” الأمر الواقع ” . وليس من المنكور أن ” الأمر الواقع ” هو بداية الطريق لأية ممارسة . وأن تجاهل الأمر الواقع أو القفز من فوقه الى غيره ” مثالية ” تهدر الطاقات ولا تغير من الواقع شيئاً . ولكن ” الدولة ” واقع سياسي في مجتمع . والمفروض انها تمثل وتجسد الواقع الاجتماعي الموضوعي . وهو فرض قد يكون صادقاً او قد لايكون تبعاً لظروف قيام الدولة في كل مجتمع . أي أن صدق التجسيد السياسي للمجتمع في دولة ما متوقف على مدى مطابقة الشكل الياسي للمضمون الاجتماعي . وهذا يعني أن الدولة لا تحدد المجتمع على هوى الذين أقاموها ليحكموا بها ، ولكن المجتمع هو الذي يحدد الدولة على ما تقتضيه حقيقة وجوده الموضوعي . وعندما تكون الدولة متفقة مع الوجود الموضوعي للمجتمع تصبح تجسيداً سياسياً صحيحاً لهذا الوجود . أما إذا لم تكن متفقة معه فإنها تكون قائمة على غير أساس سوى القهر ويجب ان تزول . وهنا فقط يفرض الأمر الواقع ذاته على مسيرة التغيير وأسلوبه . لأن إقامة الدولة الحقيقية لابد أن يبدأ من الدولة المصطنعة ذاتها : بتحطيمها .
فالأمر الواقع حجة ملزمة في ” ممارسة ” التغيير ، ولكنه ليس حجة ملزمة في ” النظرية ” . لأن نظرية تغيير الواقع تعني تحديد الواقع من اجل تغييره ، وليس احترام الواقع والابقاء عليه. ومن هنا نعرف لماذا لا نقبل الاحتلال وهو أمر واقع ، ولا اسرائيل وهي أمر واقع ، والاستبداد وهو أمر واقع ، ولا التخلف وهو أمر واقع .. الخ . لأننا نعرف أن ” كل شيء في تغير مستمر ” وان مهمتنا على وجه التحديد هي تغيير الأمر الواقع إلى ما هو أفضل ، ونظرية تغيير الواقع هي التي تحدد لنا ما الأمر الذي نغيره من الأمور الواقعة وإلى أين يكون التغيير . إذن فكون ” الدولة ” أمراً واقعاً يحدد لنا مجتمعنا لا يعني بالضرورة انها التحديد الصحيح للمجتمع الذي ننتمي اليه . إنما نكون كذلك عندما تكون تجسيداً للحقيقة الموضوعية للمجتمع ، ويكون علينا ان نبحث عن تلك الحقيقة الموضوعية لنرى بعد هذا ما إذا كانت الدولة تتفق مع تلك الحقيقة أو لا تتفق .
فكيف يمكن أن نكتشف الحقيقة من أمر مجتمعنا الذي ننتمي إليه ؟
بمعرفة كيف تتكون المجتمعات البشرية .
وخلاصة ما نراه في هذا ، طبقاً وتطبيقاً ” لجدل الانسان ” انه إذا اجتمع اثنان وتطورا معاً ، خلال الزمان ، فإن هذا يعني أن ثمة مشكلة ، أو مشكلات ، مشتركة بينهما لا تحل إلا بارتباطهما ، وتطورهما ، معاً . وهما يحلان تلك المشكلة أو المشكلات عن طريق تبادل المعرفة فيعرف كل واحد منهما ما هي المشكلة المشتركة وكيف نشأت . وتبادل الفكر بينهما فيعرف كل واحد منهما وجهة نظر الآخر في كيفية حل المشكلة . وتبادل العمل ، أي مساهمة كل واحد منهما بجهده في حل المشكلة المشتركة وإشباع حاجتهما المشتركة والاضافة الى الإثنين ، خلال الزمان ؛ تمد أبعاد المجتمع الصغير ، أو الجماعة ، على مستويات ثلاثة : إمتداد أفقي حيث يتعدد الناس وحيث يحمل كل فرد حاجته معه وتتعدد المشكلات الفردية بتعدد الافراد. وإمتداد رأسي يبدأ بالحاجة الفردية إلى الحاجة الجماعية أو المشتركة . وإتجاه إلى المستقبل حيث تنشأ كل يوم مشكلات فردية وجماعية جديدة تضاف إلى ما كان موجوداً وتكسب كل مشكلة اولويتها في الحل بقدر ما تكون حادة ومشتركة … وهكذا .
وقد تكون الرابطة الأولى التي جمعت بين اثنين هي الاجتماع على حل مشكلة ” حفظ النوع ” التي يؤدي حلها إلى أن يضاف إلى الاثنين ثالث فتوجد الاسرة ثم العائلة ثم السلالة … الخ . تلك وحدة الاسرة تظل واقعاً مشتركاً بين الناس تميزهم عن غيرهم حتى يتجاوز التعدد – في الزمان – ما يميز الناس بأصلهم الواحد فتتوه الانساب المشتركة في الكثرة . غير ان مجرد اجتماع اثنين ، ولو على مشكلة حفظ النوع ، ينشيء مشكلة مشتركة جديدة على كل منهما ، أي انها وليدة التناقض بين اجتماعهما في مشكلة واحدة وانفصالهما – كل منفرد بذاته – في الوقت نفسه ، مضمونها كيف يفكران ويتبادلان الرأي ويسهمان في حل مشكلتهما الأولى . وقد حلت تلك المشكلة الجديدة بأول إضافة رائعة ابتكرها الانسان ونعني بها اللغة . فعن طريق اللغة أمكن الوصول – بين المتعددين – إلى وحدة الادراك والفكر والعمل لمواجهة المشكلات المشتركة . وباللغة وجد التطور الاجتماعي أول أدواته فانطلقت كل أسرة تواجه – مجتمعة – ظروفها المشتركة وتحقق مستقبلها المشترك . ثم يستمر النمو بالتعدد ، وتتعدد المشكلات ، وتتنوع في مضامينها ، بحيث تتجاوز في اتساعها ، وفي مضمونها ، رابطة الدم التي تصبح عاجزة عن ان تجمع جهد كل الأسر ، والعشائر ، لحل المشكلات المشتركة فيما بينها ولتحقيق مصالحها المشتركة ، فتتكون المجتمعات القبلية حلاً لمشكلات مشتركة بين أفراد كل قبيلة ، وتكون القبيلة بذلك طوراً جديداً ، نامياً ، يتجاوز بمقدرته المشتركة مقدرة الأسر فيه على حل المشكلات المشتركة .
فقد أتى على الانسان حين من الدهر ، استنفذه في الصراع ضد الظروف الطبيعية للحصول على ما يحفظ حياته من ناتج الأرض والصيد . وكان شكل صراعه متابعة ثمار الطبيعة المتاحة تلقائياً الى حيث هي ، والبقاء المؤقت على الأرض حيث يحدها ، إلى ان تنضب فيهجرها الى مكان آخر من الأرض . كانت الهجرة تغييراً للظروف المادية ( الطبيعية ) بالانتقال من مكان الى آخر . وبالهجرة ، وخلالها ، إلتقاء بجماعات أخرى تسعى وراء الغاية ذاتها . فيلتقيان على مصدر انتاج واحد فيقتتلان عليه . وبغلبة أحدهما يدخل مرحلة من التطور بدأت بحل مشكلة التزاحم فيستقر على الأرض ويبدأ في مواجهة المشكلات الجديدة التي تطرحها ظروفه الجديدة . فيبتكر في الأرض التي استقر عليها ما يحل مشكلات جمع نتاجها وتخزينه وتوزيعه وحراسته من فؤوس ومنازل وحراب ونبال … الخ . وإذ يكون هذا هو الطريق الوحيد لحفظ الحياة وإشباع حاجاتها المتجددة ، يصبح جهد الأسر والعائلات قاصراً عنها فيكون الحل الحتمي أن تتجمع الأسر والسلالات والعشائر – تدريجياً ومن خلال مواجهة المشكلات ذاتها – لتكون قبائل . أي لتكون بكثرتها ومقدرتها أقدر على حل مشكلات الظروف المشتركة . ويطرح تعدد الأسر والعشائر في المجتمع القبلي مشكلات جديدة تحلها القبيلة بما تضيفه من نظم وتقاليد وعادات تضبط سلوك الجميع ويحتكمون اليها فلا يتفرقون . وقد يتحقق لهم جميعاً نصر مشترك ضد عدو مشترك فيمجدون انتصار ” قبيلتهم ” على الطبيعة وعلى الأعداء شعراً وغناء وألحاناً … إلى أن ينضب رزق الأرض ، أو يغلبوا على أمرهم ، فتبدأ مرحلة جديدة من الصراع ضد الطبيعة والأعداء بهجرة جديدة يصاحبها قتال جديد … الخ .
وهكذا كانت المجتمعات القبلية وحدات متماسكة داخلياً ، مهاجرة ، مقاتلة دائماً .
ذلك هو الطور القبلي من المجتمعات : داخل المجموعة الانسانية الواحدة ، ينفرد كل جماعة وحدة قبلية متميزة عن القبائل الأخرى بأصلها الواحد ولغتها الواحدة ثم بنظمها وتقاليدها وثقافتها القبلية . ولا تميزها عن غيرها ” الأرض ” التي تعيش فيها ، لتبادل المواقع من الأرض كراً وفراً خلال الصراع القبلي .
وقد انتهى الطور القبلي أو كاد أن ينتهي . فخلال احقاب طويلة من الهجرة المقاتلة ، أهتدت بعض الجماعات والقبائل الى الأرض الخصيبة وأودية الانهار فاستأثرت بها خلال مشكلة ندرة الرزق التي كانت تعالجها بالهجرة من مكان إلى مكان . ولم تعد حركتها خاضعة لما تمنحه الطبيعة تلقائياً ، بل ” استقرت ” على الأرض وابتكرت الزراعة وأدواتها . حينئذ افترق تاريخ الشعوب والمجتمعات ولم يعد من الممكن الحديث عن ” التاريخ الانساني ” أو ” تاريخ البشرية ” بل لابد من تتبع كل جماعة على حدة لنعرف تاريخها الخاص على ضوء ظروفها الخاصة .
فالجماعات القبلية التي استقرت على أرض معينة خاصة بها دخلت مرحلة تكوين جديدة هي مرحلة تكوين الأمم ، التكوين القومي ، لتتميز بهذا الاستقرار على أرض خاصة عن الطور الذي سبقها . الطور القبلي . غير أن هذا لا يعني أنها قد أصبحت أمماً فنحن لا نقول أن أية جماعة من الناس لها لغة مشتركة وتقيم في منطقة معينة من الأرض قد أصبحت أمة . بل ننظر الى المجتمعات خلال تطورها الجدلي وحركتها التي لا تتوقف من الماضي الى المستقبل . فالأمة تدخل مرحلة التكوين باستقرار الجماعات القبلية ( تحمل كل منها لغتها وثقافتها وتقاليدها ) على أرض معينة ومشتركة وبها تحل مشكلة الهجرة وتتميز بالاستقرار على الأرض عن الطور القبلي . ثم تبدأ في التكوين وتتحدد خصائصها خلال مواجهة المشكلات المشتركة والمشاركة في حلها . وقد تكون أول مشكلة واجهتها الجماعات المستقرة هي المحافظة على هذا الاستقرار . أي حماية الأرض المشتركة . ذلك لآن القبائل لم تستقر كلها في وقت واحد . بل بينما استقر بعضها ودخل مرحلة التكوين القومي ظلت الجماعات القبلية الأخرى مهاجرة مقاتلة معاً . تغزو أطراف الأرض التي استقر عليها الأولون فتقيم فيها مختلطة بسكانها الاصليين مبتدئين معاً مرحلة من الحياة المشتركة المستقرة لن تلبث أن تكوّن منهم أمة واحدة . أو محاولة غزوها فمنحسرة عن حدودها . وقد يثير الغزاة حروباً مضادة تخرج فيها الجيوش لمطاردة المغيرين والقضاؤ عليهم وضم مراكز تجمعهم الى الأرض الخاصة فتمتد حدودها ليشملها جميعاً الاستقرار مقدمة لتكوين أمة . وقد استمرت فترات الغزو القبلي وحروب المطاردة فترات طويلة من التاريخ عوّقت تطور الجماعات المستقرة الى أن تكون أمماً مكتملة . وان كانت قد أسهمت – من ناحية أخرى – في ان يتجاوز المستقرون على الأرض الخاصة المشتركة ، رواسب الطور القبلي فيلتحموا معاً خلال العمل المشترك لحماية الأرض المشتركة في مواجهة العدو المشترك . وعندما تثبت حدود الأرض مؤذنة بانتهاء الصراع حول الاختصاص بها تكون الحدود ذاتها حدوداً لما يليها من ارض خاصة بجماعات مستقرة أخرى .
الى هنا تكون قد توافرت للجماعة المستقرة على ارض معينة ( الامة في دور التكوين ) وحدة اللغة ووحدة الأرض المشتركة . غير أن هذا لا يميزها عن غيرها من الجماعات المستقرة التي لها بالضرورة لغتها وأرضها . انما تكتمل خصائص الأمة من تكوينها القومي المنطلق فمن استقرار الشعوب على أرض خاصة فتفاعل الناس مع الناس مع الطبيعة ينتج حصيلة مادية ( انتاج زراعي ، انتاج صناعي ، أدوات انتاج ، مبان … الخ ) وتفاعل الناس في المجتمع ينتج حصيلة اجتماعية من الأفكار والمذاهب والنظم والقيم والتقاليد والفنون … الخ . والنظر الى هذه الحصيلة من تفاعل الانسان مع الطبيعة ومع غيره في المجتمع نظراً الى ما يسمى ” الحضارة ” . فإذا اضيف الى هذا – في دور التكوين القومي – ان الطبيعة محددة بأرض معينة متميزة عن غيرها ” وليست ممتازة ” وان الناس قد تحددوا بشعب معين متميز عن غيره ( وليس ممتازاً ) كان مؤدى هذا التحديد أن حصيلة تفاعل الناس مع أرضهم الخاصة وفيما بينهم ستكون متميزة في مضمونها المادي والثقافي عن غيرها ، أي تكون متميزة ” حضارياً ” . وتكون بذلك قد اكتملت ” أمة ” .
وعندما تكتمل الأمم وجوداً قد تظل فلولاً من الجماعات القبلية محاصرة او محصورة على أطراف الأرض الوعرة فيما بين الأمم . أو متخلفة في أماكن متفرقة داخل الأمة . وقد تحاول من حين الى آخر أن تكمل مسيرتها التاريخية مستقلة وان تدخل هي ايضاً مرحلة التكوين القومي خاصة بها ، وهذا لا يكون إلا بأن تقتطع لنفسها جزءاً من الأرض تختص به . ولكن الأمر لا يكون قد حسم تاريخياً باختصاص الأمة التي سبقت تكويناً بالأرض المعينة المشتركة حتى اقصى اطرافها بصرف النظر عمن قد يكون مقيماً على أرضها ، وفي كنفها ، من أفراد ، أو أسر ، او عشائر لا ينتمون اليها او من يكون متخلفاً من ابنائها لأن التكوين القومي الجديد هنا لن يكون إلا على حساب تكوين قومي اكتمل تاريخياً .

– وحدة الوجود القومي :

يقولون في تعريف الأمة : ” انها جماعة من البشر تكونت تاريخياً لها لغة مشتركة وأرض مشتركة … الخ ” . فلماذا – اذن – نسرد كل هذا لنصل الى ما يقولون ؟ لأن هناك اقوالاً أخرى في ” الأمة ” غير صحيحة وان كانت متداولة في الفكر العربي . ونعني بها تلك الآراء التي لا تدخل ” الأرض المشتركة ” عنصراً في التكوين القومي . وهو خطأ كبير . اذ أن اية نظرية في ” الأمة ” لا تسلم بأن ” الأرض المشتركة ” عنصر لازم لأية جماعة بشرية لتكون امة هي نظرية فاشلة في التعريف بالأمة . ذلك لأن كافة العناصر الأخرى مثل وحدة اللغة التي ترتكز عليها النظرية الألمانية ، أو وحدة الحياة الاقتصادية التي يرتكز عليها الفكر الماركسي ، أو وحدة الثقافة التي تشيد بها الكتابات العربية ، أو حتى وحدة الارادة التي تركز عليها النظرية الفرنسية . الخ ، كل هذه عناصر ممكن ان تتوافر ن وان تجتمع ، لجماعات بشرية لا ترقى الى مستوى ” الأمة ” كالمجتمعات القبلية مثلاً . ان هذه نقطة هامة لا نعتقد ان الأدب القومي قد منحها كل العناية التي تستحقها ، مع انها – كما سنرى – من العناصر الجوهرية في نظرية القومية .
على أي حال لقد عرفنا من حديثنا عن كيف يتكون الوجود القومي ، وكيف تكتمل الأمة تكويناً ، ان المميز الاساسي للأمة عن الجماعات الانسانية السابقة عليها هو عنصر الأرض الخاصة المشتركة . الخاصة بالجماعة البشرية المعينة دون غيرها من الجماعات الانسانية الاخرى ، المشتركة فيما بين الناس فيها . ومن هنا تكون الأمة تكويناً واحداً من الناس ( الشعب ) والأرض ( الوطن ) معاً . فنحن عندما نقول – مثلاً – اننا امة عربية ثم نتحدث عن الوطن العربي لا يكون حديثنا عن شيئين منفصلين بل عن الكل ( الأمة ) الذي يتضمن الجزء ( الوطن ) . فالشعب العربي ( الناس ) والوطن العربي ( الأرض ) يكونان معاً الأمة العربية التي ما تحولت من شعوب لا تختص بالأرض التي تقيم عليها الى امة ، أو من أرض لا تخص شعباً بعينه الى امة ، الاعندما التحم الشعب العربي بالوطن العربي واختص به ليكونا وجوداً واحداً هو الأمة العربية .
وإذا كان لابد من تعريف فإن الأمة : مجتمع ذو حضارة متميزة ، من شعب معين مستقر على أرض خاصة ومشتركة ، تكوّن نتيجة تطوّر تاريخي مشترك . أما كل ما تعلمناه من مميزات الأمة كاللغة او الثقافة او الدين … فتلك عناصر التكوين الحضاري وهي تختلف من أمة الى أمة تبعاً لظروف التطوّر التاريخي الذي كوّنها . اما عن المصالح الاقتصادية المشتركة فهي متوافرة في كل مجتمع حتى لو لم يكن أمة . واما الحالة النفسية المشتركة ، والولاء المشترك … الخ فتلك معبرات في الأفراد عن انتمائهم الى امة قائمة . وتختلف من فرد الى فرد في الأمة الواحدة تبعاً لوعيه علاقته بمجتمعه القومي . ولكن الوجود القومي لا يتوقف عليها . وقد قلنا ان الأمة مجتمع تكوّن نتيجة ” تطور ” تاريخي مشترك لأن القول بأنها تكوّن تاريخي لا يكفي للدلالة على انها طور من المجتمعات أكثر تقدماً من الأطوار السابقة عليه .
ولا بأس في ان ننبه – هنا – الى أن معرفة أو تعريف ” الأمة ” ليست مباراة في المقدرة على الصياغة ، بل هي ضرورة لازمة لمعرفة الظاهرة الاجتماعية التي سيكون كل الحديث – بعد هذا – دائراً حول تطورها . ولقد نعرف من كثير مما كتب عن الأمة في الأدب العربي ” تساهلاً ” في معرفة الأمة والتعريف بها . فإذا بالانطلاق منها الى قضايا المستقبل يصل بهم الى مآزق غير سهلة ز ونضرب لهذا ثلاثة امثلة حية : المثل الأول ” التساهل ” في عنصر الأرض الخاصة والمشتركة والتركيز على الوحدة الثقافية أو الروحية وهي النظرية في الأمة التي قامت عليها الحركة الصهيونية . والمثل الثاني ” التساهل ” في عنصر التطور التاريخي والتركيز على وحدة الارادة وهي النظرية التي ادت وتؤدي بكثير من المثقفين العرب الى الخطأ في فهم مشكلة الاقليات القومية . والمثل الثالث هو الاختلاف في الرأي حول تقييم الحركة القومية الراجع الى الاستعمالات المتباينة لكلمة ” أمة ” . ويغذي هذا الاختلاف ان اللغات ذات الأصل اللاتيني تتضمن ، وتستعمل ، مفردات لغوية لا تتفق مع المفردات العربية المستعملة في الأدب القومي . أهمها ما يترجم عادة الى كلمة ” قوميات ” . انهم – هناك – يقصدون بها ما يمكن أن تدل عليه كلمة : ” أمم ” او ” اقليات قومية ” . ونحن نعرف اللبس الذي أدت اليه الترجمة – الخاطئة أو المتعمدة – لما كتب في الأدب الماركسي عن ” المسألة القومية ” فإذا بها تصبح ” المسالة الوطنية ” . وقد عرفنا من قبل ما يؤدي اليه هذا اللبس من خلط بين ” حركات التحرر الوطني ” و ” الحركات القومية ” ( فقرة 11 ) .
أياً ما كان الأمر فإن فيما سبق بياناً للأمة كما نفهمها . وبذلك المفهوم سنستعملها فيما يلي من حديث .

- وحدة المصير القومي :

والآن نعيد السؤال :
ما هو مجتمعنا الذي ننتمي اليه ؟ ما هي حقيقته الموضوعية كتكوين تاريخي . هل نحن ما زلنا مجموعات من القبائل ، أم أننا مجموعة من الأمم ، أم اننا ننتمي الى امة عربية واحدة ؟
والاجابة هنا تكاد تكون جاهزة . نحن امة عربية واحدة . والأمة العربية هي مجتمعنا الذي ننتمي اليه . وهي إجابة غير منكورة من كل الذين يعنينا أن نقيم معهم حوار بناء حول المستقبل العربي ونظريته . وقد اكتشف كثيرون حقيقة الوجود القومي العربي من شعورهم بالانتماء الى هذه الأمة العربية التي تتجاوز مجتمعاتهم السياسية بشراً وأرضاً ، أي من خلال ما يسمونه ” الحالة النفسية المشتركة ” التي تعبر بذاتها عن اكتمال التكوين الاجتماعي الذي تعكسه . واكتشفه آخرون عن طريق البحث العلمي في تاريخ الأمة العربية . واكتشفه غيرهم عن طريق الممارسة حيث تعاملها شعوب الأمم الأخرى على أساس أنهم ” عرب ” ينتمون الى امة عربية . بل ان كثيرين قد اكتشفوا انتماءهم القومي الى الأمة العربية من خلال صدمة النكبة سنة 1948 ، وصدمة النكسة سنة 1967 . المهم انه قد اصبح مسلماً بأننا ننتمي الى امة عربية مكتملة التكوين ، وهذا يعفينا من جهد لا مبرر له لإثباته . فنحن مقبولون ” كأمة ” وهذا يكفي . يكفي لنقول اننا امة عربية . وبعد ؟
هذا هو السؤال الدقيق . ان مجرد القول بأننا امة عربية واحدة قد لا يعني شيئاً عند الكثيرين . ونحن نعرف أن كثرة من الناس يسلمون معنا باننا أمة عربية ثم لا يرون ان لهذا اثراً في مخططات النضال من اجل المستقبل . ومعنى هذا ان ثمة فجوة في الحوار لا بد من ان تملأ لنلتقي . خاصة ونحن نتحدث عن الوجود القومي في إطار نظرية النضال من اجل المستقبل .
لا يمكن فهم العلاقة بين الوجود القومي ووحدة مصيره إلا إذا عرفنا ” لماذا ” تكونت الأمم ؟ لماذا كنا امة عربية مثلاً ؟ هل كان ذلك مصادفة تاريخية ، أو تم اعتباطاً لا أحد يدري لماذا ؟ إنه سؤال لم يكن لنا حظ التعرف على أية اجابة عليه في اية دراسة أخرى . مع انه سؤال حاسم.
” في الانسان نفسه يتناقض الماضي والمستقبل . ويتولى الانسان نفسه حل التناقض بالعمل . إضافة فيها من الماضي ومن المستقبل ولكن تتجاوزهما الى خلق جديد ” . هذا هو قانون التطور الجدلي كما عرفناه من ” جدل الانسان ” وترجمته الاجتماعية هي : ان المجتمعات تتطور من خلال العمل المشترك ( الجماعي ) لحل التناقض بين الواقع ( حصيلة الماضي ) والمستقبل ( كما تعبر عنه حاجاتها ) أو بتعبير أسهل : ان المجتمعات تتطور خلال حل المشكلات التي يطرحها واقعها مستهدفة دائماً اشباع حاجاتها المادية والثقافية المتزايدة ابداً .
إذا نظرنا على ضوء هذا الى تطور المجتمعات ” نجد ان التكوين القبلي كان حصيلة نمو واضافة تحققت خلال حل مشكلات الطور الذي سبقه . فهو اكثر منه تقدماً ، وأكثر منه شمولاً ، فيتضمنه ولا يلغيه ولكن يضيف اليه ما يحدده كما يحدد الكل الجزء . فالمجتمع القبلي لم يلغ الاسرة فيه ، بل ظلت أسراً وبطوناً وأفخاذاً يقوم الدم فيها رابطة بين ذوي الدم الواحد في حدود مشكلاتهم العائلية ، تضاف اليها الرابطة القبلية الواحدة فيما يتجاوز حدود الاسرة الى القبيلة . اضافة كانت حلاً لمشكلة تحققت بها للافراد حتى من الاسرة الواحدة حريات لم تكن لتتحقق لهم بما تهيئه رابطة الدم وحدها من مقدرة على التحرر . اللغة الواحدة بقيت كما كانت وسيلة للمعرفة ولتبادل الرأي ولكنها أصبحت أكثر غنى بما أضاف الناس اليها في المجتمع القبلي من معارف وآراء جديدة طورتها فتجاوزت لغة الأسر والبطون والعشائر التي بقيت لهجات تشملها اللغة الواحدة وتتخطاها ولكن لا تلغيها . ومثل هذا تحقق في العلم والمعرفة والعقائد والمقدرة على العمل فكسب به كل فرد من أية أسرة حريات أكثر مما كانت له وهو محصور في امكانيات بني دمه … ( كذلك ) التكوين القومي للمجتمعات ( كان ) حصيلة نمو وإضافة تحققت خلال الحل الجدلي لمشكلات الطور الاجتماعي الذي سبق القوميات فهو أكثر منه تقدماُ ، أي فيه من الحريات للانسان أكثر مما كان . وهو اكثر منه شمولاً فيتضمنه ولا يلغيه ولكن يضيف اليه ويحدده كما يحدد الكل الجزء . فكما ان المجتمع القبلي لم يلغ الاسرة بل ظلت اسراً وبطوناً وافخاذاً . يقوم الدم فيها رابطة مميزة بين ذوي الدم الواحد ، بقيت الاسر في الأمة الواحدة واضيفت اليها الروابط المحلية والاقليمية فيما يتجاوز التمييز العائلي ، تمييزاً للخلف المستقر للجماعات القبلية ، قرى ومدناً ومناطق واقاليم ، ثم اضيفت اليها الرابطة القومية إضافة كانت حلاً لمشكلات الاسر والاقاليم ذاتها ، وتحققت بها للافراد من الأسر ومن الاقاليم حريات لم تكن لتتحقق لهم بما تهيئه رابطة الدم وحدها او الروابط المحلية وحدها . اللغة الواحدة بقيت كما كانت من قبل وسيلة مشتركة لتبادل المعرفة وتبادل الرأي ، واصبحت اكثر غنى بما اضاف اليها الناس في المجتمع القومي من معارف وآراء جديدة طورتها فتجاوزت لغة الاسر والاقاليم التي بقيت لهجاتها تشملها اللغة الواحدة وتتخطاها ولكن لا تلغيها . ومثل هذا تحقق إضافة في العلم والمعرفة والعقائد والمقدرة على العمل ، فكسب به كل فرد من اية اسرة ، ومن اية اقليم ، علماً وثقافة وحريات اكثر مما كان له وهو محصور في امكانيات بني دمه او عشيرته أو اقليمه . والاضافة لا تلغي المضاف اليه ولكن تكمله فتغنيه … الخ .
وهكذا جاء كخلاصة لدراسة طويلة في ” اسس الاشتراكية العربية ” باللغة المنتقاة على ما تفرضه الدراسة هناك . ونقوله هنا باللغة البسيطة التي تناسب الحوار المفتوح : اننا لم نكن أمة عربية اعتباطاً ، بل تكونا أمة عربية من خلال بحث الناس عن حياة افضل ، فإذا كنا قد بلغنا من خلال تلك المعاناة التاريخية الى الطور القومي ، أي ما دمنا أمة عربية واحدة ، فإن هذا يعني ان تاريخنا ، الذي قد نعرف كل احداثه وقد لا نعرفها ، قد استنفذ خلال بحث اجدادنا عن حياة افضل كل امكانيات العشائر والقبائل والشعوب قبل أن تلتحم معاً لتكون أمة عربية واحدة . وانها عندما اكتملت تكويناً كانت بذلك دليلاً موضوعياً غير قابل للنقض على أن ثمة ” وحدة موضوعية ” قد نعرفها ، وقد لا نعرفها ، بين كل المشكلات التي يطرحها واقعنا القومي ، أياً كان مضمونها . وانها ، بهذا المعنى ، مشكلات قومية لا يمكن أن تجد حلها الصحيح إلا بإمكانيات قومية ، وقوى قومية ، في نطاق المصير القومي . قد يحاول من يشاء ان يحل مشكلاته الخاصة بإمكانياته القاصرة ، ثم يقنع بما يصيب ، ولكنه لا يلبث أن يتبين ، في المدى القصير او الطويل ، ان الحل الصحيح المتكافيء مع الامكانيات القومية ، المتسق مع التقدم القومي ، قد أخطأه عندما اختار ان يفلت بمصيره الخاص في الوحدة الموضوعية للمشكلات التي تشكل حلولها المصير القومي الواحد .
ذلك هو ما تعنيه ” وحدة المصير القومي ” .
انه ذات التعبير في مجنمع قومي عن البدهية التي عرفناها من قوانين التطور الاجتماعي ( فقرة 18 ) : ” ما دام الواقع الاجتماعي محدداً موضوعياً فإن الحل الصحيح لأية مشكلة اجتماعية محدد موضوعياً … فلو استطعنا أن نحصر كل ما يحتاجه الناس في مجتمع معين ونعرف في ذات الوقت كل ما يستطيع الواقع ان يقدمه لعرفنا ما هي المشكلات الحقيقية التي يطرحها الواقع الاجتماعي وكيف تحل . أي لعرفنا الحل الصحيح للمشكلات الاجتماعية كما هي محددة موضوعياً . مؤدى هذا ان كل مشكلة اجتماعية لها حقيقة واحدة مهما اختلف فهم الناس لها وبصرف النظر عن مدى ادراك صاحبها لحقيقتها . وان اية مشكلة اجتماعية ليس لها الاحل صحيح واحد في واقع اجتماعي معين في وقت معين . قد يكون لها أكثر من حل خاطيء ، قاصر أو متجاوز أو مناقض ، يحاوله صاحبه فيفشل في حلها ، ولكن حلها الصحيح لا يمكن إلا أن يكون واحداً بحكم أن الواقع الاجتماعي واحد ” .

– وحدة الدولة القومية :

لا يتفق فقهاء علم القانون على تعريف واحد للدولة ، ولكنهم يتفقون على العناصر التي يجب ان تتوافر لأي مجتمع ليكون دولة ، فيقولون انها ثلاثة : (1) شعب و (2) أرض و ( 3) سلطة شاملة الشعب والأرض جميعاً مستقلة عن أية سلطة أخرى . ويضيف بعضهم ” الاعتراف ” كعنصر رابع وان كان هذا محل خلاف كبير يدور حول ما إذا كان الاعتراف لازماً لتوحيد الدولة أم للاقرار بوجودها أم للامرين معاً . وفقهاء علم القانون ، في كل هذا ، ” يصفون ” الدولة ” النموذج ” ، ولكنهم لا يهتمون بكيفية قيام الدولة ” الواقعية ” . فيكفيهم أن تقوم في الواقع بعناصرها النموذجية لتكون عندهم دولة ، ثم يبدأون ، بعد هذا ، في شرح دلالات عناصرها والاثار القانونية ( الحقوقية ) المترتبة عليها غير ان اكثر جهد فقهاء علم القانون كان وما يزال منصباً على شرح دلالة وىثار ذلك العنصر الثالث : ” السلطة ” أو ” السيادة ” كما يقال في كثير من كتب القانون حيث تتداول الكلمتان كما لو كانتا ذاتي مدلول واحد . وفي هذا يدور الحوار الخصيب حول ما يسمى ” بالمشكلة الدستورية ” . ماهي السيادة ؟ أو ماهي السلطة ؟ وما مصدرها ؟ . ومن صاحب الحق في ممارستها ؟ .. وما هي حدودها … الخ . وما يزال ما يقولونه في هذا غير منته الى اتفاق . ذلك لأنهم يعالجون موضوعاً ذا جذور تاريخية موغلة في القدم كانت السلطة فيها اسبق الى المعرفة من السيادة . وكان مصدرها ما يسمى ” بالتفويض الالهي ” . حيث يمثل الملك إرادة الله في الأرض ولا يكون مسؤولاً إلا أمامه في السماء . وقد انتهى هذا المفهوم بنهاية القرن الثامن عشر حيث أصبح الشعب مصدر السلطة . وفيه دخل تعبير ” السيادة ” لغة القانون . فالشعب مصدر السلطات لأن الشعب ، وليس الملك ، هو السيد . ولكن الشعب السيد لا يمارس سيادته فما هي العلاقة بينه وبين من يمارسها ؟ أو ما هي العلاقة بين السيادة والسلطة ؟ وفي هذا كلام كثير . ووراءه كل هذا النظريات التي شاعت في أوروبا قبل القرن الثامن عشر وابدعها فلاسفة الليبرالية من امثال روسو و منتسكيو الذين كانوا يبذرون أفكارهم للتمهيد للثورة ضد الاقطاع . ولسنا ندخل ساحة الحوار مع هؤلاء أو مع فقهاء علم القانون . انما نحاول هنا أن نترجم نظريتنا القومية الى لغة القانون .
” يمكننا منذ البداية أن نفرق بين السيادة والسلطة . فالسيادة أشمل من السلطة إذ السلطة هي ” ممارسة ” السيادة . أو ان حق السيادة هو مصدر حق السلطة . وهما في علاقة قريبة من علاقة حق الملكية بحق الانتفاع ، إذ الأول يتضمن الأخير وهو مصدره . ويترتب على هذا – أولاً – أن من يملك حق السيادة يملك حق السلطة ، ولكن ليس من اللازم أن يكون مالك حق السلطة مالكاً لحق السيادة . ويقوم هذا عندما يمارس صاحب حق السيادة حقه في السلطة لا بنفسه ولكن بمن يختاره ليمثله وينوب عنه في ممارسته . ويترتب عليه – ثانياً – أن من يمارس السلطة نيابة عن صاحب حق السيادة يظل تابعاً لمن أنابه فكما يختاره له ان يحاسبه وان يعزله وان يعين غيره . وعندما يسلب منه هذا الحق يكون قد فقد سيادته . فإذا طبقنا هذا على المجتمعات نجد أن الشعب هو صاحب حق السيادة بما يتضمنه من سلطة . أما محل الحق فهو الأرض . ومن هنا يكون للسيادة مفهوم ذو حدين : سيادة الشعب على ارضه دون الشعوب والجماعات الأخرى ( الاختصاص بالأرض ) . وسيادة كل الشعب على ارضه ( المشاركة فيها ) . ولما كان الشعب مكوناً من أفراد عديدين فإنه يمارس سيادته في حديها من خلال أفراد يمثلونه وينوبون عنه ويكونون مسؤولين أمامه . أولئك الذين يطلق عليهم لفظ الحكومة . هنا تبقى السيادة للشعب وتمارس الحكومة السلطة نيابة عنه ثم تتوزع وظائف السلطة على اجهزة متخصصة في التشريع او القضاء … ويصاغ كل هذا في عديد من القواعد الملزمة لكل واحد من الشعب أياً كان موقعه . وبمجموع تلك القواعد يتحول المجتمع الى مؤسسة منظمة . منظمة بمعنى أن علاقة الناس فيها بالأرض وعلاقاتهم فيما بينهم وعلاقتهم بمن ينوبون عنهم في ممارسة السلطة تكون محددة بقواعد ملزمة لهم جميعاً ولكل واحد منهم . ونلتقي هنا بكلمة الشرعية . أي اتفاق السلوك الفردي أو الجماعي مع قواعد ذلك النظام القانوني . ويصبح غير مشروع كل سلوك لا يتفق معها . تلك القواعد التي تضبط سلوك الناس في مجتمع منظم هي ما يسمى ” بالقوانين ” التي تطلق عليها بدورها اسماء شتى من أول الدستور ( القانون الاساسي ) الى آخر الأوامر الادارية . المهم انه أياً كان اسم القاعدة الملزمة فهي جزء من نظام قانوني ( حقوقي ) غايته أن يضبط سلوك الناس في المجتمع على قاعدتين تمثل كل منهما حداً من حدي السيادة ، الأولى اختصاص الشعب بالأرض دون غيره . والثانية مشاركة الشعب في أرضه . وعندما يقوم هذا النظام في أي مجتمع يتحول المجتمع الى منظمة قانونية ( حقوقية ) من البشر والأرض ، أو كما يقال من الشعب والوطن ، أي يتحول الى ” دولة ” بعناصرها التي يعرفها فقهاء علم القانون ، الشعب والأرض والسلطة ( السيادة ) .
ثم يأتي الاعتراف صادراً من دولة اخرى ويكون من آثاره التزام الدولة المعترفة بالآثار الملزمة للقواعد التي تشكل بمجموعها المنظمة القانونية ( الدولة ) المعترف بها .
ولقد عرفنا من قبل كيف يتحدد عنصرا البشر والأرض في المجتمع القومي خلال التطور التاريخي . وكيف أن الأمة هي تكوين اجتماعي من شعب معين وأرض معينة خاصة بها ومشتركة فيما بينه . ويضيف هذا الى مفهوم السيادة مضموناً جديداً هو المشاركة التاريخية فيها بين الاجيال المتعاقبة من الشعب . وننتهي الى عدم شرعية تنازل الشعب ، أي جيل من الشعب ، عن السيادة على الأرض . وان شرعية الدولة ذاتها منوطة باتفاق نطاقها البشري والاقليمي مع التكوين التاريخي للمجتمع .
بناء على هذا كله نستطيع ان نقول اننا عندما نكون في مواجهة امة فإن وحدة الوجود القومي تحتم وحدة الدولة فيها . بمعنى ان الدولة القومية التي تشمل الشعب والوطن كما هما يحددان تاريخياً هي وحدها التي تجسد سيادة الشعب على وطنه القومي ومشاركته التاريخية فيه . وهي لابد ان تكون شاملة البشر والأرض جميعاً لتكون دولة قومية مكتملة السيادة . إذ عندما يخرج عن نطاقها أي جزء من الشعب يكون هذا الجزء قد حرم من ممارسة سيادته على وطنه . وعندما يخرج عن نطاقها أي جزء من الوطن يكون الشعب قد حرم من ممارسة سيادته على ذلك الجزء من الوطن .
غير ان هذا ليس كل شيء .
فقد عرفنا أن وحدة المصير القومي تعني أن ” ثمة وحدة موضوعية ” ، قد نعرفها وقد لا نعرفها ، بين كل المشكلات التي يطرحها واقعنا القومي ، أياً كان مضمونها . وانها ، بهذا المعنى ، مشكلات قومية لا يمكن أن نجد حلها الصحيح إلا بإمكانيات قومية ، وقوى قومية ، في نطاق المصير القومي ( فقرة 23 ) . ومؤدى هذا ان وحدة الدولة القومية شرط لازم لإمكان معرفة حقيقة المشكلات الاجتماعية في المجتمع القومي ، وحلولها الصحيحة المحددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته وتنفيذ تلك الحلول في الواقع . ان هذا لا يعني أن الناس في الدولة القومية سيعرفون تماماً حقيقة المشكلات الاجتماعية وحلولها الصحيحة أو انهم سيحلونها فعلاً إنما يعني أن كل هذا يكون متاحاً لهم في الدولة القومية أما الباقي فيكون متوقفاً على مقدرتهم على الانتفاع به .
ونلاحظ هنا ملحوظة دقيقة .
إذا كانت ممارسة حل المشكلات الاجتماعية في مجتمع قومي تتم في غير نطاق الدولة القومية ، فإننا لا نستطيع ان نعرف – من مجرد الممارسة – حقيقة مشكلة غياب الدولة القومية . لأن الدولة القومية هي الشرط الأول لمعرفة حقيقة المشكلات التي يطرحها الواقع الاجتماعي القومي بما فيها مشكلة الدولة ومناسبتها لآداء وظيفتها . نريد أن نقول أنه مهما عرفنا من المشكلات الاجتماعية في مجتمعنا القومي وحلولها والامكانيات المتاحة لحلها ، فإن غياب الدولة القومية يعني بذاته اننا نواجه مشكلة ” نقص ” المعرفة بالمشكلات وحلولها ، و ” نقص ” الامكانيات المتاحة لحلها . ان هذا النقص في المعرفة لا يمكن ان يعوض إلا علمياً وعقائدياً . أما النقص في الامكانيات فلا يعوض إلا بالدولة القومية ذاتها . لهذا فإننا نلاحظ أن الذين يتصدون لحل المشكلات الاجتماعية في غيبة الدولة القومية ، بدون وعي قومي ، لا يعرفون من الممارسة ضرورة الدولة القومية في المجتمع القومي إلا بقدر ما يفشلون وفي المجالات التي يفشلون فيها وفي وقت الفشل . ومن هنا لا يتذكرون الوحدة إلا عندما يفشلون ولا يطلبونها إلا في مجالات فشلهم ولا يقبلونها إلا بقدر ما تكون ” نافعة ” كتعويض لهذا الفشل . نافعة في إكمال معرفتهم بالمشكلات أو إكمال معرفتهم بحلولها أو إكمال امكانيات حلها . فهي مرتبطة عندهم بالمنفعة كما يلمسونها ، وإنما يلمسونها ، وعندما يلمسونها في الممارسة . وهو طريق تجريبي للمعرفة طويل وباهظ الثمن ولكنه يؤدي ، في النهاية ، الى ذات المنطلق العقائدي الصحيح . إذ لما كانت الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية في الواقع الاجتماعي القومي محددة موضوعياً بالواقع الاجتماعي ( المجتمع القومي ) ذاته فإن الممارسة في غيبة الدولة القومية ستعلم أصحابها كيف يقبلون الحل الصحيح لمشكلاتهم : الوحدة . هذا لاشك فيه طال الزمان او قصر . كل ما في الأمر أنهم لن يتعلموا إلا بعد أن يبذلوا جهوداً مهدرة في محاولات التطور الفاشلة . وهذا هو الفارق بين المعرفة العلمية لقوانين التطور الاجتماعي والتزامها وبين الجهل بها أو تجاهلها وممارسة التطور الاجتماعي بالتجربة والخطأ . الفارق بين حركة التطوير الاجتماعي العقائدية وبين حركة التطور الاجتماعي التجريبية .
وعندما نكون عقائديين ، وعندما نكون علميين ، ونعرف أن واقعنا الاجتماعي هو ” أمة ” نطلب الوحدة السياسية ( الدولة القومية ) حتى نوفر لأنفسنا اول شروط المقدرة على التطور ولا نطلبها لحل إحدى مشكلات التطور . نطلب دولة الوحدة لمجتمعنا القومي لنستطيع ان نتطور ” فيها ” ولا نطلبها لنطور ” بها ” واقعنا الاقليمي مثلاً . الأول موقف قومي سينتصر حتماً والآخر موقف انتهازي سينكشف حتماً فينهزم .
فما القومية ؟

- – القومية :

قلنا أن الاضافة الى الاثنين – خلال الزمان – تمد أبعاد المجتمع الصغير ، أو الجماعة ، على مستويات ثلاثة : امتداد افقي حيث يتعدد الناس ويحمل كل فرد حاجته معه وتتعدد المشكلات الفردية بتعدد الافراد . وامتداد رأسي يبدأ بالحاجة الفردية الى الحاجة الجماعية أو المشتركة . واتجاه الى المستقبل حيث تنشأ كل يوم مشكلات فردية وجماعية جديدة تضاف الى ما كان موجوداً وهكذا عندما يكتمل التكوين القومي ونكون في مواجهة ” أمة ” تكون لكل أمة أبعاد ثلاثة . البعد الأول يحددها من حيث علاقتها بالجماعات الانسانية الخارجة عنها . والبعد الثاني يحددها من حيث علاقتها بالجماعات الانسانية الداخلة فيها . والبعد الثالث يحددها من حيث مسيرتها كأمة . هذا بالاضافة الى حدها الرابع ( الحد الزماني ) الذي هو الواقع الاجتماعي للأمة في وقت معين .
من مجموع هذه الابعاد التي تصل الأمة بغيرها ، كما يحددها ويتحدد بها الوجود القومي نعرف أن ” القومية ” وصف للعلاقة التي تجمع الناس في مجتمعهم القومي والموقف القومي هو الذي يتحدد متفقاً مع علاقات المجتمع القومي بغيره . والحركة القومية هي التي تستهدف تطوير المجتمع القومي في حدود التزامها تلك العلاقات . أما المجتمع القومي فهو الأمة نفسها .
اننا – هنا نلتقي بأولى مميزات ” نظرية تغيير الواقع القومي ” . انها أولاً وقبل كل شيء نظرية قومية . بمعنى أنها بيان لمنطلقات وغايات وأساليب تطوير مجتمع حقيقته التاريخية – كما هي – أنه ” أمة ” . فهي تبدأ من الوجود القومي الى مصيره القومي وتتعامل معه في حركته ” كما هو ” . إذن ، نحن لن نختر القومية نظرية لتغيير واقعنا العربي تعصباً مرضياً بل قبولاً علمياً للتعامل مع واقعنا الاجتماعي ” كما هو ” . وقد عرفنا من نظرية تطور المجتمعات ( فقرة 18 ) ( المنهج ) ، التي هي واحدة بالنسبة الى كل المجتمعات ، إن التعامل مع الواقع الاجتماعي ” كما هو ” هو أول مفاتيح النجاح في حل مشكلات التطور الاجتماعي في أي مجتمع . فإذا كنا نرفض أية نظرية ” لا قومية ” مهما كانت وعودها مغرية فلأننا نعرف أنها نظرية فاشلة في تحقيق ما تعد به في واقعنا العربي المحدد موضوعياً بأنه واقع قومي . وأنها إن تكن نظرية محدودة ومقصورة على تطوير الواقع الجزئي في مجاله ( مجال اقتصادي أو اجتماعي ، أو سياسي .. الخ ) أو في مكانه ( تطوير الواقع في مكان ما من الوطن العربي ) فإنها ستكون فاشلة ايضاً ما لم تكن متسقة كجزء مع النظرية القومية لتطور الأمة العربية . حتى لو لم يكن فشلها إلا في عجزها عن أن تحقق في واقعها الجزئي ما يمكن موضوعياً تحقيقه طبقاً للنظرية القومية .
ولنبدأ بالبعد الأول للوجود القومي .

- القومية والانسانية :

” في الكل الشامل للطبيعة والانسان : كل شيء مؤثر في غيره متأثر به ” هذا هو القانون . وتطبيقه على الوجود القومي وحركته يؤدي الى معرفة أن كون ” الأمة ” مجتمعاً من بني البشر ذا خصائص متميزة لا يعني أنه ليس جزءاً من وجود وحركة المجتمع الانساني كله . ومن هنا لا تعني ” القومية ” الانعزال عن القضايا التي تمس المجموعة الانسانية ككل أو أية مجموعة انسانية منها . بل تعني ، من ناحية ، المشاركة فيها بقدر ما تؤثر في الوجود القومي وحركته . وتعني ، من ناحية أخرى ، ان الحركة القومية منضبطة بحدود القضايا التي تمس المجموعة الانسانية ككل أو أية مجموعة انسانية أخرى . على اساس أنها مؤثرة فيها حتماً . أن مشكلة السلام العالمي ، في عصر الاسلحة النووية ، تقدم لنا مثلاً حياً لهذا التأثير المتبادل بين الوجود القومي والوجود الانساني . ولكنه ليس المثل الوحيد . في حدود هذا يظل الوجود القومي مجرد وجود خاص . فهو إضافة الى ، وليس انتقاصاً من ، وجود الجماعات الانسانية الأخرى . وهكذا تكون ” القومية ” علاقة قبول واحترام للوجود الخاص لكل مجتمع من المجتمعات الانسانية .
غير أنه يبدو أن ” الممارسة ” التاريخية لا تؤيد هذا . فإن ” القومية ” متهمة بأنها كانت وما تزال علاقة عدوانية . ويضربون لهذا مثلاً ، أمثلة عديدة في الواقع ، من تاريخ العدوان الاستعماري المستمر على الشعوب ، ومن الحرب ” الاوروبية ” الثانية التي شنتها النازية والفاشية . ويقولون أن كل هذا كان ، وما يزال ، أثراً من آثار القومية . والواقع أنه ليس من الغريب – كما سنرى – أن يكون كثير من المعتدين الاستعماريين ، والنازيين ، والفاشيين قد شنوا حروبهم العدوانية باسم القومية . ولكن الغريب حقاً أن يصدق بعض الذين يدعون المعرفة العلمية ما يقوله المعتدون . إن أقل مقدرة من المعرفة العلمية بالاستعمار وبالنازية وبالفاشية ، وغيرها من الحركات العدوانية ، يكشف عن حقيقة القوى الكامنة وراء الحروب العدوانية ، وبواعثها ، وأغراضها . انهم الرأسماليون الذين يستغلون ، أول ما يستغلون ، الشعوب من اممهم ذاتها ، ثم يستعملونها وقوداً للحروب التوسعية بقصد اغتصاب ما لدى الشعوب الأخرى من ثروات وقوى لاستهلاكها أو لتصنيعها ثم اعادتها الى ذات الشعوب المقهورة لا ستهلاكها في مقابل الاثمان التي يفرضها الغاصبون . كل هذا بقصد تحقيق مزيد من ” الربح ” للرأسماليين . لا جشعاً منهم ، كما يقال عادة ، ولكن لأن تلك هي طبيعة النظم الاستغلالية حيث لا يستطيع أحد إلا أن يكون سارقاً أو مسروقاً بحكم قانون المنافسة المخرب . والمستغلون الذين كانوا قد أخضعوا شعوبهم قبل أن يتطلعوا الى الشعوب الأخرى ، وأبقوها على الجهالة قسراً ، وسموا عقولها بما يملكون من مقدرة اقتصادية في الاعلام والتوجيه ، ما كانوا ، ولا يمكن أن يكونوا ، صادقين معها فيطلبوا منها أن تبعث بأبنائها الى مجازر الحروب ” فيما وراء البحار ” أو ” فيما وراء الحدود ” للبحث عن مصادر جديدة للثروة والربح . ثروتهم الخاصة وأرباحهم الخاصة . فلا يجدون ما يسترون به جرائمهم ، ويدفعون به الشبهة عن مطامعهم ، إلا أكثر الروابط الانسانية بعداً عن العدوان : القومية . وهم لا يتورعون عن استغلالها متى كانت أكثر ملائمة لاخفاء الأسباب الحقيقية للعدوان . بل أنهم قد يجدون حدثاً ما ، وإذا لم يجدوه اختلقوه ، لإيهام الناس بان ثمة اعتداء على أمتهم ، ليدفعوا الناس الى مجازر الحروب العدوانية التي لا علاقة لها بالقومية .
آية هذا أننا بقدر ما نجد في التاريخ من حروب عدوانية باسم القومية ، نجد حروباً تحررية باسم القومية أيضاً . وفي الحرب ” الاوروبية ” الثانية كانت النازية تغزو بولندا باسم القومية الالمانية . وكانت بولندا تدافع عن وجودها باسم القومية البولندية . وانهزمت فرنسا في حربها القومية ضد العدوان النازي . وانتصر الاتحاد السوفيتي في حربه ” القومية الكبرى ” ضد النازية . فأيهم كان اصدق قولاً في ” القومية ” ؟ … فهل تصدق ادانة القومية بما تجني أيدي المستغلين ، مصاصي دماء الشعوب ، شعوبهم والشعوب الأخرى ؟ اننا قبل أن ندين أية حرب ينبغي أن نعرف لماذا ، ولمصلحة من يخوض كل طرف حربه . بصرف النظر عن التضليل الدعائي الذي هو واحد من مصلحة الحروب .
انما المسألة هي ان الوحدة القومية تعبيء كل امكانيات الأمة . فهي خطوة قومية . ثم يتوقف ما بعد هذا على القوى التي تستعمل تلك الامكانيات المتاحة . عندما تكون القوى ” قومية ” لا يمكن أن تستعملها إلا في خدمة تطور الأمة ذاتها معرفة منها بأنها امكانيات خاصة ومشتركة . ومن هنا يصر القوميون ، أول ما يصرون ، على ضرورة الوحدة السياسية لكل أمة ، ليحولوا بذلك دون اسئثار أي قوى ، ولو كانت قطاعاً عريضاً من الشعب نفسه ، بمصادر الثروة في ذلك الجزء من الوطن الذي يعيش فيه . انهم يرفضون هذا الاستئثار ويفرضون الوحدة السياسية لتشمل كل الشعب وكل الوطن تأكيداً لوحدة الأمة ووحدة مصيرها . ولا خلاف هنا في نوع هذه الحركة وأهدافها . فكل حركة ” وحدوية ” على أساس وحدة الوجود القومي ، بشراً وأرضاً ومصيراً ، هي حركة قومية . وهي حركة قومية بهذا المعنى وفي هذه الحدود فقط . ومرجع التحفظ ما عرفناه من قبل من أن المجتمعات لم تدخل كلها مرحلة التكوين القومي دفعة واحدة في وقت واحد . كما أن مسيرة التكوين القومي لم تكن واحدة بالنسبة الى كل الأمم . وقد أدى هذا الى ان بعض الحركات القومية قد صاحبت حركة التحرر البرجوازي من القهر الاقطاعي في أوروبا . وتولى البرجوازيون قيادتها إلى أن تحققت الوحدة القومية . والقى هذا شبهة كثيفة على الحركات القومية ظناً بأن كل حركة قومية هي حركة برجوازية . ونحن لا نريد أن نناقش هنا ما إذا كانت الحركة البرجوازية قبل القرن التاسع عشر – في أوروبا – تقدمية ام رجعية . إنما الذي نريد أن نطرحه هو السؤال الآتي : في أية مرحلة وإلى أي مدى كانت تلك الحركات التي أقامت الدول القومية الموحدة ثم تجاوزتها الى الاستغلال الرأسمالي ، الى أي مدى وفي أية مرحلة كانت قومية ؟ لا شك في أنها كانت حركات قومية في مرحلة ما قبل الوحدة والى أن تمت الوحدة . فقد كانت تلتزم الرابطة القومية التي تنفي التجزئة ، ولكنها بمجرد أن حققت الوحدة انقسمت قوى متصارعة : الرأسماليون من ناحية يريدون مصالحهم الخاصة ، وهو موقف مناقض لوحدة المصير القومي ، والشعب من ناحية يريد ان يحقق من التقدم ما تتيحه له الرابطة القومية ، وذلك موقف قومي . ثم لما ان تجاوز الرأسماليون استغلال شعوبهم ذاتها واتخذوا من الحروب العدوانية سبيلاً الى قهر الشعوب الأخرى واستغلالها ، كانوا أبعد ما كانوا عن القومية . القومية كما نعرفها ونفهمها . وحتى كما فهمها الليبراليون ( الرأسماليون ) لم يكن تجاوز الوحدة القومية الى الاستغلال والاستعمار حركة قومية . إذ ان المفهوم الليبرالي للقومية يوقف حركتها عند الوحدة القومية ولا يرى انها – بعد هذا – ذات مضامين تتصل بمستقبل التطور بعد تحقيق الوحدة ( فقرة 6 ) ولكن الخلط جاء من التقييم الماركسي للقومية بمفهومها الليبرالي إذ اعتبر أن ذلك المفهوم السلبي للقومية هو المفهوم الصحيح فاعتبر ان كل حركة قومية هي حركة ليبرالية أو بورجوازية

- مشكلات التحرر العربي :

لسنا نريد أن نغادر الواقع العربي ونعود إلى التجريد الفكري لنقول ما هي الحرية. يكفي أن نتذكر ما عرفناه من أن كل الأشياء والظواهر، بما فيها الانسان، منضبطة حركتها من الماضي إلى المستقبل بقوانين حتمية معروفة أو تمكن معرفتها . وبقدر ما نعرف وما نحترم حتمية القوانين أو النواميس التي تضبط حركة الواقع نستطيع أن نغيره ( فقرة 2) . وإن جدل الإنسان هو القانون الحتمي الذي يضبط حركة الانسان . وأنه حتمي بمعنى أن الإنسان يتحرر من حاجته بتغيير واقعه وليس بتغيير ذاته كإنسان ولا يستطيع أي إنسان أن يتحرر من حاجته إلا بتغيير واقعه . إذ حتم على الإنسان، بحكم قانونه النوعي، أن ينتزع حريته من قيود واقعه ( فقرة 18) . وإن المجتمعات تتطور من خلال حل مشكلات الناس فيها ولا تتطور إلا من خلال حل مشكلات الناس فيها . وبقدر ما تحل مشكلات الناس فيها تتطور لا أكثر . ولا يتم التطور إلا في المجالات الاجتماعية التي تحل مشكلات الناس فيها لا أبعد (فقرة 18). يكفي أن نتذكر هذا لنعرف أن ليس للحرية، طبقاص لجدل الإنسان ، مفهوم سوى المقدرة على التطور الاجتماعي الذي عرفناه .
أما التحرير فهو إطلاق تلك المقدرة من القيود المفروضة عليها .
وقد عرفنا أن ليس كل ما هو متاح في الوطن العربي من إمكانيات التقدم الاجتماعي متاحاً للشعب العربي، بعضه أو أكثره مغتصب أو مسلوب . وعليه فإن التحرر العربي هو استرداد الإمكانيات العربية المغتصبة والمسلوبة ووضعها تحت تصرف الشعب العربي ليحقق بها تقدمه الاجتماعي . ما هي تلك الامكانيات ، ولماذا هي مغتصبة أو مسلوبة ، ومن هم الغاصبون السالبون، وكيف تكون تحت تصرف الشعب العربي ؟ … تلك هي الأسئلة التي تثيرها مشكلات التحرر العربي . بالإضافة إلى سؤال يأتي أخيراً هو : كيف تسترد؟…
وأول ما يلاحظ من مشكلات التحرر هو أن التناقض الذي يثيرها قائم بين إرادة الشعب العربي توظيف كل الإمكانيات المادية والبشرية المتاحة في وطنه وبين ” واقع ” أن بعض أو أكثر تلك الإمكانيات مسلوب أو مغتصب . ويكون حل المشكلة هو تغيير هذا الواقع باسترداد ما هو مسلوب أو مغتصب . هذه هي الغاية الأصيلة من النضال من أجل التحرر العربي . أما الموقف من الغاصبين السالبين وكيفية إسترداد ما اغتصبوه أو سلبوه ، وتصفية مقاومتهم فتلك مشكلات أسلوب التحرر، ويفيدنا هذا في معرفة: أولاً : أن تلك الامكانيات يجب أن تسترد، لا تراجع عن هذا ولا مساومة عليه، بصرف النظر عن مواقف الغاصبين السالبين وتنوع الأساليب التي قد تكون لازمة لتصفية مقاومتهم . ثانياً : إن معارك التحرر ليست حواراً نظرياً بين السارقين والمسروقين . ومن هنا فإن تحديد حقيقة مشكلات التحرر وحلولها الصحيحة وأسلوب تحقيقها يكون طبقاً للنظرية التي نلتزمها نحن لا طبقاً للنظريات التي قد يدعونها تبريراً لمواقفهم العدوانية . ثالثاً : إن مسئولية كل ما يقتضيه التحرر من عنف يصيب البشر تقع على عاتق الغاصبين السالبين الذي أقاموا ذلك الواقع المعوق أو الذين يدافعون عن بقائه. رابعاً : إنه ما دام حتماً على المجتمعات أن تتطور طبقاً للقوانين الموضوعية التي تحكم حركتها من الماضي الى المستقبل، فإن النصر في معارك التحرر حتمي . طال الزمان أو قصر، ومهما تكن القوى التي تحمي وتدافع عن أسباب التخلف.
فما هي الامكانيات العربية المغتصبة أو المسلوبة ؟ .
إننا هنا في حاجة الى نظريتنا القومية التي عرفنا منها إننا أمة عربية وعرفنا منها ماذا يعني إننا أمة عربية وماهية العلاقات القومية التي تضبط حركتنا الى المستقبل . هنا سنستفيد من منطلقاتنا الصحيحة في معرفة غاياتنا العينية . هنا ستتميز- في الوطن العربي- الحركا القومية التحررية عن الحركات التحررية اللاقومية ، ويثبت أكثر من ذي قبل تفوق الفكر القومي في مقدرته على تقديم الحلول الصحيحة لمشكلات التحرر العربي وأن يكون ضابط الحركة ومناط الوحدة بين قواها- وهنا، في مواجهة التضليل الفكري الذي لا تكف القوى الغاصبة أو السالبة عن إستخدامه لاضعاف ثقتنا بالنصر، وفي غمار المعارك التكتيكية ، التي قد تقتضي التقدم أو التراجع أو الالتفاف أو الدوران أو المناورة سيفتقد كل الذين لا يلتزمون النظرية القومية اليقين العقائدي بالنصر والرؤية الواضحة للغاية النهائية من معارك التحرير. لانهم ببساطة لا يعرفون ما هو مجتمعهم ، فلا يعرفون ما هي الامكانيات المغتصبة أو المسلوبة، فلا يعرفون من هم الغاصبون السالبون، فلا يعرفون ساحة معركة التحرير، ولا قواها، ولا الموضوع الذي يدور حوله الصراع .

نحن أمة عربية.
و الأمة تكوين من الناس (الشعب) والأرض (الوطن) . وهي مجتمع ذو حضارة متميزة من شعب معين مستقر على أرض خاصة ومشتركة نتيجة تطور تاريخي مشترك . إن هذه العلاقة الخاصة بين الناس والأرض هي التي تميز المجتمع القومي ومصدر بنائه الحضاري المتميز. وهي التي تم بها تاريخياً تكوين أمتنا العربية . ” فا لشعب العربي (الناس) والوطن العربي (الأرض) يكونان معاً الأمة العربية التي ما تحولت من شعوب لا تختص بالأرض التي تقيم عليها الى أمة . أو من أرض لا تخص شعباً بعينه الى أمة، إلا عندما التحم الشعب العربي بالوطن العربي واختص به ليكونا وجوداً واحداً هو الأمة العربية (فقرة 22) . وهكذا تشكل الأرض العربية، الوطن العربي ، أول مجال نبحث فيه عن الامكانيات المغتصبة أو المسلوبة . وهي لا تكون مغتصبة أو مسلوبة إلا اذا كانت دخلت ، خلال التطور التاريخي ، عنصراً في تكوين الأمة العربية. وتكون غاية التحرر استردادها لتكون كما كانت أرضاً خاصة بالشعب العربي . لا أبعد من هذا ولا دون هذا . كل ذرة من تلك الأرض، كل ما في أعماقها وما فوقها من مصادر الإنتاج ، معروفة كانت أو غيير معروفة ، هي إمكانيات للتقدم متاحة في الوطن العربي وخاصة بالشعب العربي، ويجب أن تكون متاحة له ليصنع بها تقدمه الإجتماعي الخاص .
من هنا ندرك أنه عندما يتعرض الشعب العربي، كله أو بعضه، للابادة أو الطرد من أرضه، وعندما يتعرض الوطن العربى، كله أو بعضه، للغزو الاستيطاني أو الاقتطاع ، أي عندما تقوم محاولة لفصل الناس (الشعب) عن الأرض (الوطن) لا نكون بصدد خطر يتهدد بعض أبناء الشعب العربي يمكن تعويضهم عنه أرضأ بأرض ، ولا بصدد خطر يتهدد جزءاً من الوطن العربي يمكن الاستغناء عنه أو المساومة عليه، بل نكون بصدد خطر يتهدد الوجود القومي ذاته . وهكذا تقوم لنا القومية أول ضوابط الحركة الى المستقبل . إسترداد الأرض العربية المغتصبة للشعب العربي ليكمل ما انتقص من وجود الأمة العربية . وهو حل لمشكلة وجود المجتمع ذاته وليس حلاً لمشكلة تطوره . والوجود يسبق المقدرة على التطور.. إذ ” عندما يكون ثمة مجتمع قد قام فيه ما يمس وجوده ، فإن مشكلة الناس فيه لا تكون تطويره بل استرداده لأنفسهم حتى يستطيعوا بعد هذا- وليس قبله- تطويره ( فقرة 18) .
فأين يقوم ” الواقع ” الذي يمس الوجود القومي؟
في فلسطين .

- – مشكلة فلسطين :

منذ اكثر من نصف قرن تقوم في فلسطين محاولة لانتزاع الارض من البشر . بدأت اختلاسا خفيا ثم تحولت الى اغتصاب بالقوة. انها ليست احتلالا لفلسطين ارضا وبشرا تسخر به القوىالمحتلة كلا من الارض والبشر لخدمة التقدم في بلادها البعيدة كما كانت تفعل انجلترا قبل سنة 1948، ولكنها محاولة بدأت قبل الإحتلال الانجليزي واستمرت في ظله وما تزال باقية بعده، فيها تحاول الحركة الصهيونية الاستيلاء على الارض ” خالية ” من الشعب العربي وتوطين بشر اخرين فيه بدلا من المطرودين . انها محاولة قريبة الشبه بما فعل المهاجرون الاوروبيون القدامى في امريكا واستراليا حيث أبادوا البشر ليقيموا على الارض الخالية مجتمعاتهم الجديدة . وفي سنة 1948 استطاعت الحركة الصهيونية ان تقيم على ارض فلسطين دولة باسم “اسرائيل”اعترفت بها أغلبية دول العالم وقبلت عضوآ في هيئة الامم المتحدة ، ورفضت الدول العربية الاعتراف بها واشتبكت معها في ثلاث جولات عسكرية خلال عشرين عاما وما تزال اسرائيل باقية. وقد عاصرت تلك المشكلة ثلاثة اجيال عربية، تتابعت عليها النظم السياسية والاجتماعية المختلفة، و تغيرت من حولها الظروف الدولية، وفي كل جيل، وتحت كل نظام، ومع كل طرف دولي، طرحت للمشكلة عشرات التفسيرات، وقدمت لها عشرات الحلول، وبذلت في حلها عشرات المحاولات، وكتبت عنها مئات الكتب… فلا تزد المشكلة الا حدّة وان كادت كل تلك الاحداث و ” الاجتهادات ” ان تخفي الاجابة الصحيحة على اول الاسئلة التي تطرحها : ما هي حقيقة المشكلة؟
وجاءت هزيمة يونيو (حزيران) 1967 فازداد الامر تعقيدا.
فمنذ عام 1967 جذب الصراع ضد الصهيونية الى ساحته افرادا وجماعات ومنظمات وشعوبا ودولا من اطراف الارض جميعا، بحيث يمكن القول- بدون أية مبالغة- ان كل القوى النشيطة في العالم أصبحت اطرافا ذات نشاط في الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين. وحمل كل طرف “قضيته”، معه، بعدا جديدا ومضمونا مضافا، الى ابعاد ومضامين المشكلة الاصيلة . وهكذا اصبح الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين دائرا بين اطراف عدة على مضامين متعددة من اجل غايات متباينة، تستعمل فيه كل انواع الاسلحة من اول الكلمات والنظريات الى ا خر الصواريخ والطائرات. ولم يعد احد يذكر حتى ذرائع القتال في يونيو (حزيران) 1967. فقد عرّت الايام ما كان مستورا وكشفت نوايا كل الأطراف فبانت حتى لأقصر الناس نظرا الاعماق الحقيقية للصراع. فلا هو صراع حول أمن اسرائيل ، ” المستضعفة ” ، في مواجهة البغي العربي المتفوق عدة وعداء..، ولا هو صراع حول الملاحة في خليج العقبة، ولا هو صراع حول اسلوب الحياة في الارض العربية، بل هو صراع يدور- بلا موا ربة- حول ا لوجود والمصير. الوجود العريي ومصيره. والوجود الصهيوني ومصيره ، والوجود الا ستعماري ومصيره في الوطن العربي وربما في العالم. وهكذا يعرف كل الشركاء والحلفاء في الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين انه ذو أثر حاسم في مصير كثير من العقائد (الايديولوجيات) والقوى والمصالح والنظم ، العربية والصهيونية وربما العالمية. وانه عندما تحل مشكلة فلسطين لن يكون المستقبل العربي مجرد امتداد لما سبق بل سيكون مستقبلا مختلفا نوعيا في قواه وفي نظمه وفي غاياته، ومن هنا اصبح المستقبل ” العربي ذاته، مستقبل الامة العربية كلها، موضوعا يدور من اجله الصراع بين القوى المشتبكة في الصراع حول مستقبل فلسطين. ويعد له كل شريك في الصراع، وكل حليف لاحدى قواه ” الصيغة ” ، التي تتفق مع مصالحه. ويدفع بالصراع ذاته الى الاتجاهات التي يعتقد انها مؤدية الى ما يريد. يدفع بالصراع الذي يدور حول مشكلة فلسطين الى الاتجاهات التي يعتقد انها مؤدية الى ما يريد في الوطن العربي . وليست ” النظريات ” ، التي كثرت اعلامها في سماء الوطن العربي منذ سنة 1967 الا الصيغ النظرية لا لمستقبل فلسطين بل لمستقبل الامة العربية . وهي تطرح على الجماهير العربية لا بقصد تثقيفها أو تعريفها بالحقيقة كما لا بد يزعم دعاتها ولكن للاتجاه بالجماهير العربية من خلال الصراع القائم الى غايات نهائية معينة .
في غمار هذا كله يصبح من المهم لنا ان نعرف حقيقة مشكلة فلسطين، وان نظل واعين حقيقتها، والا نسمح لاحد بأن يضللنا عن هذه الحقيقة، فاننا لن نعرف قط الحل الصحيح لأية مشكلة اذا جهلنا حقيقتها، وعندما لا نعرف الحل الصحيح لن نحل المشكلة قط . ولقد نعرف ان ” كل مشكلة اجتماعية لها حقيقة واحدة مهما اختلف فهم الناس لها و بصرف النظر عن مدى ادراك صاحبها لحقيقتها. وان اية مشكلة اجتماعية ليس لها الا حل صحيح واحد في واقع اجتماعي معين في وقت معين. قد يكون لها اكثر من حل خاطىء، قاصر أو متجاوز أو مناقض ، يحاوله صاحبه فيفشل في حلها، ولكن حلها الصحيح لا يمكن الا ان يكون واحدا بحكم ان الواقع الاجتماعي واحد ” (1) وعندما نطبق هذا على المجتمع القومي (الامة) ننتهى الى ان ” للمشكلات الاجتماعية في الامة حلولا موضوعية يحددها الوجود القومي ذاته بما يتفق مع التقدم القومي . والصراع الاجتماعي حول المشكلات الاجتماعية لا يعني ان تلك الحلول غير معروفة أو غير قابلة للمعرفة ، بل يعني تماما ان الصراع يدور بين قوى تزعم كل منها انها تستهدف الحل الموضوعي الصحيح . وقد يكونون كلهم خاطئين، ولكن الذي لا يمكن ان يكون ابدا ان يكونوا كلهم على حق فيما يزعمون “ (2) .
فما هي حقيقة مشكلة فلسطين وما هوحلها الصحيح؟
لنبدأ بالوقائع التاريخية وهي بسيطة : منذ الفتح الاسلامى والشعب العربي هو الذي يقيم ويعيش على ارض فلسطين. ومن اجلها دارت اقسى معارك الدفاع عن الارض المشتركة ضد الغزو الصليبي واشترك كل الشعب العربي بامواله وابنائه في تحرير فلسطين واستردادها من الصليبيين. ومنذ ان انحسرت نهائيأ موجات الغزو الصليبي لم يغادر الشعب العربي ارض فلسطين الى ان طرد بعضه من بعضها سنة 1948 . هذا تاريخ غير منكور . ولم ينكر احد حتى من الصهاينة ان الشعب العربي هو الذي كان يقيم ويعيش على ارض فلسطين منذ الفتح الاسلامي حتى سنة 1948. وهكذا ندرك عدم جدوى كل ما كتب في محاولة اثبات ما لم ينكره احد . انما يبدأ الخلاف حول تفسير الوقائع التاريخية غير المنكورة . وسنعرض فيها يلي الموقف العربي القومي ثم الموقف الصهيوني قبل ان نعرض الحل القومي للمشكلة .

2- الموقف القومي :

الموقف القومي من مشكلة فلسطين بسيط وواضح :
فعندما ننظر الى المجتمعات خلال تطورها الجدلي وحركتها التي لا تتوقف من الماضى الى المستقبل، نفهم أن فلسطين، ارضا وشعبا، قد دخلت طورا جديدا بالفتح الاسلامي . لم تعد منذ ذلك الحين موقعا للصراع القبلى بين الكنعانيين والاسرائيليين والرومان بل استقر الامر فيها لتتخطى مرحلة البداوة القبلية حيث لا تخص الارض شعبا بعينه لتكون جزءا مؤثرا ومتأثرا، متحركا، ومتغيرا، ومتطورا مع بقية الجماعات والشعوب التي وفر لها الفتح الاسلامي اوسع فرص التفاعل التاريخي لتكون معا أمة عربية . واذا كانت العلاقات العرقية (السامية) بين المقيمين في فلسطين والمقيمين في بقية انحاء الوطن العربي قد سهلت عملية التفاعل تلك فان المهم هو ما ادى اليه التفاعل من تطور تقدمي انصهرت فيه الجماعات والشعوب السابقة على التكوين القومي العربي واصبحت به أمة واحدة . من هنا فانا لا نطرح مشكلة فلسطين ولا نفهمها ولا نحتج فيها استنادا الى أية وقائع تاريخية سابقة على التكوين القومى . ولا نقبل من أحد ان يطرحها او يفهمها أو يحتج فيها بما يسبق دخول فلسطين ارضا وشعبا عنصرا من عناصر التكوين التاريخي للامة العربية. ذلك لاننا كقوميين، والقومية تقدمية، لا نحتج ولا نقبل الاحتجاج على ثمرات التطور التاريخي بتاريخ البداوة الاولى .
فلسطين اذن جزء من الامة العربية :
وبالتالي فان محاولة طرد الشعب العربي واغتصاب الارض العربية لتوطين بشر مستوردين هو اعتداء على الوجود القومي للامة العربية لا بد من أن يرد . هو انتقاص من المجتمع العربي لا بد من أن يستكمل. هو فسخ لعلاقة تاريخية بين الشعب والارض لابد من ان يزول ليعود الشعب الى الارض وتعود الارض الى الشعب فتبقى الامة العربية ” كما هي “، لا اكثر. كل هذا بصرف النظر عن جنس أو ديانة أو لون او مبادىء أو نوايا المعتدين . ان هذا مهم . لان الوجود القومي مجرد وجود خاص . فهو اضافة الى ، وليس ا نتقاصا من ، وجود الجماعات الانسانية الاخرى . وهكذا تكون القومية علاقة قبول واحترام للوجود الخاص لكل مجتمع من المجتمعات الانسانية، وهذا يعني، طبقا لنظريتنا القومية، ان حق الامة العربية في الوجود الكامل ، لا يتوقف على أحد. وبالتالي فان حق الشعب العربي في استكمال وجود امته باسترداد فلسطين لا يتوقف على ما اذا كان المعتدون يهودا أو غير يهود ، رأسماليين أو من الذين لا يملكون شيئا يخسرونه، كما لا يتوقف، على أي وجه وفي أي ظرف، على موقف الدول من هذا الحق سواء كانت دولا كبرى أو دولا صغرى ، منفردة أو مجتمعة ي منظمة هيئة الامم المتحدة . ان كل هذا الذي يتصل بالمعتدين وحلفائهم والموقف الدولي من المشكلة قد يؤثر بشكل أو بآخر على اسلوب حلها، اما حقيقتها القومية كما هي محددة بالوجود القومي العربي فلا تتأثر ولا تتغير بمواقف القوى الاخرى معتدية كانت أو حليفة او صديقة. حتى لوكانت حليفة او صديقة للشعب العربي نفسه.
تترتب على هذا عدة نتائج هامة يتميز بها الموقف القومى من مشكلة فلسطين .
أولاها : ان الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين ليس قائما بين الشعب العربي وبين ،(اليهود) ، لانهم يهود . هذا خطأ جسيم في فهم المشكلة . ان العروبة قومية واليهودية دين، فلكل منهما دلالة مختلفة على مضامين مختلفة. القومية العربية علاقة انتماء الى مجتمع قومي (أمة) والدين اليهودي علاقة ايمان بمقولات ميتا فيزيقية. وكما يكون العربي يهوديا ويبقى عربيا يكون اليهودي منتميا الى أي واحد من المجتمعات التي تملأ الارض بدون ان يكون ثمة تناقض بين انتمائه الاجتماعي وايمانه الديني . ليس ثمة شيء ابعد عن حقيقة مشكلة فلسطين واكثر تشويها لها من القول بانها مشكلة صراع ديني يحلها قبول التعايش بين الاديان على ارض فلسطين . فيوم ان اغتصب الصليبيون المسيحيون ارض فلسطين قاتل العرب، مسلمين ومسيحيين ، الى ان استردوا الارض المغتصبة ، ومن قبل ان يبدأ العدوان الصهيوني على فلسطين كان العرب من كل دين يعيشون في سلام على ارض فلسطين . ان مشكلة فلسطين مشكلة ارض مغتصبة وليست مشكلة تبشير باحد الاديان . مشكلة قومية وليست مشكلة دينية . واذا كان الصهاينة المعتدون يخلطون القومية بالدين ويبررون العدوان بنصوص من ،(التوراة)، فذلك ما يقوله المعتدون أنفسهم لخدمة اغراضهم أو لتبرير عدوانهم … وعندما ننزلق نحن الى هذا الخطأ نكون قد قبلنا حجة المعتدين وشوهنا حقيقة مشكلتنا فلا نعرف حلها الصحيح ولا نستطيع ان نحلها. وقد نقع في الخطأ حتى بعيدا عن التصدي لمشكلة فلسطين . فعندما ينسى بعض المتفقهين ، الامة العربية التي ينتمون اليها، والواقع القومي الذي تثور فيه المشكلة، ويقدمون الدين بديلأ عن القومية، أو عندما ينفعل “المتعصبون ” فيصبون جام غضبهم على ابناء امتهم العربية من اليهود، لا يفعلون شيئا بتلك الاخطاء الغبية المضللة سوى خذلان امتهم المعتدى عليها والانتصار للصهيونية المعتدية. اذ عندما يصبح الدين بديلا عن القومية ثم تطرح مشكلة فلسطين ينتهي بهم الامر الى اقتسام الوطن العربي فيها بين الاديان الثلاثة على الاقل . وايا ما كانت النسبة بين الاقسام فسيكون على كل مسلم أو مسيحي أن يخرج من ارض اليهود في فلسطين . أي يكون عليهم أن يقبلوا الحل الصهيوني الذي يظنون انهم يحاربونه بالتعصب الديني .
فهل يقبلون ما تنتهي اليه منطلقاتهم أم هي اخطاء غبية ؟
النتيجة الثانية: هي ان الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين ليس قائما حول النظم الاجتماعية في الارض العربية بين الرجعيين والتقدميين . انما هو قائم حول الارض المغتصبة ولمن تكون . فمن حيث الوقائع التاريخية كان كثيرون من عتاة الصهاينة ورواد الغزو الصهيوني لفلسطين من “الاشتراكيين ” بينما كان المدافعون عن الارض العربية ” اقطاعيين ” أو رأسماليين . وادى ذلك الى وقوع اكثر الناس ادعاء للفهم ” العلمي ” للمشكلات في خطأ فهم حقيقة مشكلة فلسطين باعتراف الاتحاد السوفييتي باسرائيل فور اعلان قيامها وانحياز الشيوعيين العرب الى الصهيونية ضد امتهم العربية.
ولم يلبث التاريخ طويلا حتى كشف ذلك الخطأ ” العلمي ” جدا. اذ في مرحلة لاحقة اصبح الصهاينة الذين كانوا يوما من اعضاء ” البوند الماركسي “، حلفاء اوفياء للامبريالية الامريكية بينما اصبح المدافعون عن الأرض العربية من التقدميين والاشتراكيين . وفي الحالتين تغيرت مواقف القوى من النظم الاجتماعية ولكن المشكلة ظلت مستمرة والصراع قائما. وقد صحح الاتحاد السوفيتي- بقدر- خطأه الاول . وصحح كثير من الماركسيين العرب مواقفهم تصحيحا كاملا. ولكن العبرة ليست بتصحيح المواقف انما العبرة بصحه فهم حقيقة مشكلة فلسطين . ومشكلة فلسطين مشكلة اثارها اغتصاب الارض العربية. والارض هي مصدر الامكانيات المادية للتقدم الاجتماعي، فاغتصابها من الشعب العربي معوق لتقدمه فهو عدوان رجعي بصرف النظر عما يفعله بها وفيها المغتصبون. واذا كان الصهاينة لا يكفون عن عقد المقارنات بين اسلوب الانتاج الجماعي في الارض المغتصبة وبين اسلوب الانتاج الفردي في الوطن العربي فهم يحاولون اخفاء المشكلة الاصيلة تحت ستار الادعاءات التقدمية ليبرروا بقاءهم في الارض المغتصبة. وهو تضليل لم يضلل مثله احد من قبل يوم ان نشب الصراع المسلح بين الصين والاتحاد السوفيتى حول بضعة اميال مربعة من الأرض على الحدود بين البلدين . لم يكن هناك شك في ان الاشتراكية هي نظام الحياة الذي ينتظر تلك الارض سواء آلت الى الصين أو الى الاتحاد السوفيتي . لم يكن أحد من الطرفين يشك في هذا ولم يثره أحد من الطرفين . إنما كان الصراع المسلح الذي وصل الى حد القتال الفعلي بين الاشتراكيين من الجانبين دائرا حول لمن تكون الارض . ان كان هذا واضحا يتضح لنا غباء الاخطاء المضللة التي تطرح مشكلة فلسطين كما لو كانت صراعا حول ملكية ادوات الانتاج في الارض العربية. وهي اخطاء غبية ومضللة حتى لو كانت تستهدف- غرورا- اضعاف الجبهة الداخلية في اسرا ئيل أو حتى شقها . لاننا انما نضعف القوى المعادية لنمزقها انتصارا لحقنا ولكن لا ندفع من حقنا ثمن اضعافها وتمزيقها. ولا يجدينا شيئا ان يتمزق المجتمع الصهيوني في اسرائيل الا من حيث انه قد يسهل حل مشكلة الارض المغتصبة منا. ولكن عندما يصبح هذا التمزيق غاية في ذاته بديلة عن الغاية الاصيلة فلن يزيد عن ان يكون انتقالا لارض فلسطين من فريق صهيوني نقول انه رجعي الى فريق صهيوني نقول ا نه تقدمي . وتكون المسألة كلها عبثا؛ وعندما ينسى بعض المتشدقين بالتقدمية والاشتراكية والكادحين والبروليتاريا… الى اخر هذه الكلمات الكبيرة ان كل فلاح في اسرائيل يزرع ارض فلاح عربي، وان كل عامل في اسرائيل محتل مكان عامل عربي، وان كل اسرة في اسرائيل تعيش في منزل اسرة عربية، عندما ينسون ان كل خطوة الى الامام في اسرائيل قد انتزعت الاقدام العربية من فوق طريق التقدم الاجتماعي، ثم يفتشون عن حلفاء من التقدميين الاشتراكيين الكادحين من بين الغاصبين بدعوى ان المشكلة مشكلة صراع حول ملكية ادوات الانتاج يدور بين ” الطبقات ” وليس صراعا حول ملكية مصادر الانتاج يدور بين المجتمعات، فانهم لا يفعلون شيئا سوى دخول معركة الصراع الاجتماعي بين الغاصبين لينتصر فريق على فريق . يدخلونها ، ويا للسخرية، من موا قع التشرد التي طردهم اليها الغاصبون. عندئذ يكون بعدهم عن فهم مشكلة فلسطين مساويا لبعدهم عن الارض المغتصبة، وقد يقع الخطأ حتى بعيدا عن صفوف المطرودين أو التصدي المباشر لمشكلة فلسطين . فعندما ينسى بعض “أكلة” الكلمات الكبيرة الامة العربية التي ينتمون اليها والواقع القومي الذي تثور فيه المشكلة، ويقدمون “الاممية”، بديلا عن القومية انما يخذلون امتهم المعتدى عليها وينتصرون للصهيونية المعتدية. اذ عندما تصبح الاممية بديلا عن القومية ثم تطرح مشكلة فلسطين ينتهي الامر بهم الى قبول الاحتكام الى وحدة الموقف من علاقات الانتاج ” بصرف النظر عن الانتماء القومي ” ، فيكون عليهم أن يقبلوا أن يزرع الفلاحون في اسرائيل ارض الفلاحين العرب وان يحل العمال في اسرائيل محل العمال العرب، وان يكون الفلاحون والعمال في الارض المحتلة هم الحلفاء الطبيعيين للذين سلبت منهم الارض وفرص العمل فاصبحوا مشردين . ولما كان سكان المخيمات عاطلين فانهم ، اذن، الاحتياطي البشري تحت قيادة ” البروليتاريا ” الاسرائيلية في نضالها ” الثوري ” ، من اجل الاشتراكية. فهل يقبلون ما تنتهى اليه منطلقاتهم ام هي اخطاء غبية؟
النتيجة الثالثة: هى ان مشكلة فلسطين ليست مشكلة دولية بمعنى انها ليست مشكلة ثائرة فيما بين الدول وليست مشكلة ثائرة ما بين الامة العربية من ناحية والمجتمع الدولي من ناحية أخرى . واذا كانت الدول تتدخل في مشكلة فلسطين انتصارا للحق العربي او دعما للعدوان الصهيوني فان الذي يحركها هو مصالحها الخاصة ولو كان السلام العالمي هو مصلحتها الخاصة. واذا كنا نحن نقيم وزنا للدول ومجتمعها ومصالحها التي تحركها كما نقيم وزنأ للسلام العالمي فلإن لنا في هذا مصالح تحركنا. ذلك لاننا لسنا منعزلين عن الدول ومجتمعها ولا نستطيع حتى لو اردنا أن نعزل انفسنا عن الدول ومجتمعها . ففي نطاق المجتمع الدولي نواجه حتمية القانون المعروف : ” كل شيء مؤثر في غيره متأثر به “. ولا شك في ان مواقف الدول من مشكلة فلسطين تؤثر وتتأثر . ايجابيا وسلبيا. باسلوب حلها. وهو ما يعني ان نأخذ من كل دولة، ومن المجتمع الدولي كله، الموقف الصحيح ونحن نحاول ان نحل مشكلة فلسطين. ولكن ما هو مقياس صحة الموقف؟.. مقياسه أن يكون مساعدا في حل المشكلة أو أن يكون حلأ لها. وهوما يعني ان لمشكله فلسطين حقيقة نعرفها هي التي تحكم مواقفنا من الدول ومن المجتمع الدولي، وان تدخل تلك الدول ومجتمعها الدولي في الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين لا يغير من حقيقتها التي نعرفها ونلتزمها : ان ارضنا العربية في فلسطين مغتصبة.
فليكن السلام العالمي . هو المثل الذي نضربه، لان السلام العالمي غاية مشتركة بين البشرجميعا. ان الحفاظ على السلام العالمي- طبقا لنظريتنا القومية- يتحقق باحترام الوجود الخاص لكل مجتمع كما هو محدد تاريخيا بصرف النظر عن الاسلوب الذي يقتضيه الحفاظ على السلام العالمي. نريد ان نقول ان استعمال العنف لا يعني- دائما- ان ثمة خطرا يهدد السلام العالمي. وقد يكون العنف ردا للعدوان هو الاسلوب الوحيد لحماية السلام العالمي . فنحن من موقفنا القومي لانصدق ولا نفهم ادعاءات السلام التي تتستر على الانتقاص من وجودنا القومي . ونرفض تماما ان ندفع أرض فلسطين أو اية ذرة من الارض العربية ثمنا لتلك الادعاءات الكاذبة ، لا لاننا لا نريد السلام العالمي ولكن لاننا لا نفهم السلام العالمي الا انه الكف عن الاعتداء واحترام الوجود الخاص لكل المجتمعات البشرية.
ان الدول لن تكف عن محاولات طرح مشكلة فلسطين كما تفهمها على ضوء مصالحها الخاصة، ولن تكف عن طرحها كمشكلة سلام عالمي صادقة أو مخاتلة، ولن تكف عن التدخل ، علنا أو خفية، من موقع التحالف معنا أو التحالف مع الصهيونية أو استغلال الطرفين معا لتحقق ما تريد. وليس لنا ان نتوقع غير هذا.، وعلينا أن نجد لحل مشكلتنا الاسلوب الملائم لتحقيق غايتنا وسط كل هذه المؤثرات. لا شك في هذا ولا انكار له. ولكن عندما ننزلق الى طرح مشكلتنا أو قبول طرحها على انها مشكلة فيها بين الدول الاخرى أو مشكلة السلام العالمي انما ندفن مشكلة فلسطين تحت ركام الصراعات الدولية. وعندما ندفنها تغيب عنا حقيقتها فلا نعرف كيف نحلها، ثم يكون علينا ان نقبل الاحتكام الى الدول لتحكم كل منها على ضوء مصالحها الخاصة، أو نحتكم الى مقتضيات السلام العالمي كما يقدرها القادرودن على تدميره أو الخائفون من القادرين . وينتهي الامر بنا الى دفع ارض فلسطين ثمنا من عندنا، لا للسلام العالمي ، ولكن لتسوية جزء من حسابات المصالح القائمة بين الدول .
وعندما نعرف ان مشكلة فلسطين ليست مشكلة دولية بالمفهوم الذي ذكرناه ، ولا ننسى انها مشكلة ارض عربية مغتصبة نفلت من شباك التضليل الذي يثيره ادعياء العلم بالقانون الدولي عندما يزعمون ان مشكلة اغتصاب الارض العربية في فلسطين قد حلت منذ ان اعترف المجتمع الدولي بدولة اسرائيل وقبلها عضوا في هيئة الامم المتحدة . وانها منذ ذلك الحين قد اصبحت مشكلة سلام بين الدول المتجاورة. ان فقه القانون الدولي مليء بالنظريات عن الاعتراف بالدول وطبيعته المنشئة أو المقررة أو المختلطة، وباثاره الملزمة فيما بين الدول المعترف بها والدولة أو الدول المعترفة. ولكن ليس في فقه القانون الدولي ولا في قواعده ولا في تطبيقاته ما يجعل لاعتراف دولة بدولة ثانية اثرا ملزما لدولة ثالثة لم تعترف بها . اذ ان القاعدة الاساسية التي يقوم عليها كل بناء القانون الدولي هي ان الدولة لا تلتزم الا بارادتها الخاصة. فما الذي يعنيه اعتراف كثير من الدول باسرائيل؟… يعني ان تلك الدول قد اصبحت ملتزمة بارادتها بان تعامل اسرائيل كدولة ما دامت قائمة ولا يعني شرعية قيام اسرائيل على الارض العربية المغتصبة لان القرارات التي تأخذها الدول، كما يعرف كل الذين يعلمون المبادىء الاولية في القانون الدولي، غير قابلة لاحداث أثر مشروع خارج نطاق الاقليم الذي تنصب عليه سيادتها. وما دامت الدول التي اعترفت باسرائيل ليست ذات سيادة على اقليم فلسطين فان اعترافها يضفي الشرعية على تعاملها مع اسرائيل ولكنه لا يضفي الشرعية على دولة اسرائيل ذاتها . لا يحول الاغتصاب الى عمل مشروع . ان هذا يقع خارج نطاق مقدرة الدول وهي تمارس سيادتها، لا لاننا نريد ذلك، ولكن لان تلك هي احكام القانون الدولي الذي يحتجون به كثيرا. اكثر من هذا ان الاعتراف بدولة اسرائيل لا يتضمن الالتزام بالمحافظة على وجودها. والا لكان الاعتراف المشروع دوليا حماية غير مشروعة. ومن هنا ندرك كم هي زائفة المقولة التي يهمس بها البعض ويهددنا بها الاخرون : ما دامت الدول قد اعترفت بوجود اسرائيل فإنها لن تسمح بزوالها أبدآ. فيوم أن تزول دولة اسرائيل يصبح الاعتراف السابق بوجودها غير ذي مضمون ويسقط . قد تدافع دولة أو أخرى عن وجود اسرائيل ولكن هذا لن يكون أثرا ملزما من اثار الاعتراف بها. سيكون حماية لمصالحها ايا كان مضمون تلك المصالح.
ان اعتراف كثير من الدول ، اذن ، باسرائيل لم يحل مشكلة فلسطين ولكنه كان حلا لمشكلات التعامل بين تلك الدول وبين اسرائيل. وبالتالي فان المشكلة، كما هي على حقيقتها، ما تزال قائمة بالرغم من الاعتراف بدولة اسرائيل.
أما عن هيئة الامم المتحدة فان مبادئها الاساسية الواردة في المواد الاولى من ميثاقها تنكر الشرعية على الاستيلاء على الارض بالقوة. وعندما قبلت هيئة الامم المتحدة اسرا ئيل عضوا فيها، قبل ان تجف دماء المذابح في الارض المغتصبة، لم يكن الاعضاء الذين قبلوا يفعلون شيئا أقل من خيانة ميثاقها. وخيانة الميثاق ليست ملزمة لمن قبلوا الميثاق . نريد ان نقول انه بحكم ميثاق هيئة الامم ذاتها ليس لاعضائها ولو مجتمعين ان يخالفوا ميثاقها. وعندما يخالفونه تكون قراراتهم غير مشروعة طبقا للميثاق ذاته فهى ليست حجة على الدول التي قبلت ان تكون اعضاء في هيئة الامم المتحدة على أساس الالتزام المتبادل بالميثاق . هذا كله بدون حاجة الى اثارة ما لا بد ان يعرفه العالمون بميثاق هيئة الامم المتحدة ، من الذي وضعه، وكيف وضع، وفي اية ظروف دولية وضع، وما هي المصالح ” الحقيقية ” ، التي وضع لحمايتها. وبدون اثارة ما يعرفه حتى الذين لا يقرأون ولا يكتبون من ان هيئة الامم المتحدة التي قبلت اسرائيل وما تزال ترفض الصين ليست الا أداة في يد من يملك القوة فيفرض بها القرارات الدولية (3).
والغريب انه بينما يتردد الزعم في اطراف الارض جميعا بان اسرا ئيل وجدت لتبقى، وبان مشكلة اغتصاب الارض العربية قد حلت منذ اعتراف المجتمع الدولي بوجود اسرا ئيل، يعرف الصهاينة قبل غيرهم انها ما تزال قائمة لم تحلها اعترافات الدول فيقاتلون منذ سنة 1948 حتى سنة 1967. ويتشبثون بالارض التي احتلوها أخيرا في مواجهة كل الضغوط الدولية من اجل الاعتراف بوجودهم على الارض التي اغتصبت اولا، من اجل فرض هذا الاعترات بالقوة على الامة العربية.
هل تتغير حقيقة مشكلة فلسطين فيما لو اعترفت باسرائيل احدى الدول العربية. أو الدول العربية مجتمعة، أو شعب فلسطين نفسه ممثلا بدولة مصنوعة أو بدون دولة؟
أبدا.
وهذا ينقلنا الى الجانب ” الداخلي “، من المشكلة كما نفهمها على ضوء نظريتنا القومية..
نعرف أن المميز الاساسي للامة عن الجماعات الانسانية السابقة عليها هو عنصر الارض الخاصة المشتركة. الخاصة بالجماعة البشرية المعينة دون غيرها من الجماعات الانسانية الاخرى المشتركة فيما بين الناس فيها “. بقي أن نعرف الموقف القومي من مشكلة فلسطين كما يحدده كون الارض العربية ” مشتركة “، فيما بين الشعب العربي . انه يحدده من ناحيتين:
الناحية الاولى : لما كانت الامة العربية تكوينا تاريخيا فان اشتراك الشعب العربي في الوطن العربي هو مشاركة تاريخية بين الاجيال المتعاقبة. وهذا يعني انه ليس من حق الشعب العربي كله، من الخليج الى المحيط ، ولو كان ممثلا في دولة الوحدة، ان يتنازل عن ارض فلسطين أو يقبل الوجود الصهيوني على الارض المغتصبة. ا نه بهذا يتصرف فيما لا يملكه وحده لانه ملك مشترك بينه وبين الاجيال العربية القادمة. ولو فعل لما كان ما يفعله حجة على الاجيال القادمة من الشعب العربي.
الناحية الثانية: انه لما كانت الارض العربية شركة بين الشعب العربي فليس من حق أي جزء من الشعب العربي ولو كان شعب فلسطين نفسه ان يتنازل عن ارض فلسطين أو يقبل الوجود الاسرائيلي على الارض العربية المغتصبة. انه بهذا يتصرف فيما لا يملكه وحده لانة ملك مشترك بينه وبين باقي شعب الامة العربية. ولو فعل لما كان ما فعله حجة على الشعب العربي.
ان هذه الناحية الثانية اكثر واقعية من الناحية الاولى . اذ ان دولة الوحدة لا تكتمل وجودا ما دامت ارض فلسطين مغتصبة ولو شملت باقي الوطن العربي . وانما أردنا أن ندفع بالفروض الى نهايتها لنؤكد بأوضح ما يمكن عدم شرعية التنازل عن ارض فلسطين أيا كان الجانب ” العربي ” المتنازل، ولو كان جيلا كاملا من الشعب العربي تمثله وتنوب عنه دولة وا حدة تعترف بالوجود الاسرا ئيلي على أرض فلسطين . ان أي جزء من الشعب العربي ممثلا في دولته أو الشعب العربي كله ممثلا في دولة واحدة، أو شعب فلسطين ممثلا في دولة أو بدون دولة، يعترف بدولة اسرا ئيل لن يفعل بهذا شيئا اكثر من الزام نفسه بالتعامل معها كدولة ولكن مشكلة الارض المغتصبة ستبقى قائمة يحلها حلها الصحيح باقي الشعب العربي ولواقتضى الامر تصفية المعترفين، أو يحلها حلها الصحيح جيل قادم من الشعب العربي يصحح خيانة جيل سبقه . ولن يستطيع أحد أن يحتج على الذين يتصدون لاسترداد الارض المغتصبة بالاعتراف الصادر من غيرهم أو بالاعتراف السابق على وجودهم، لانهم كشركاء في الارض العربية شركة تاريخية غير ملزمين بما فعله أو يفعله شركاؤهم الاخرون .
مشكلة فلسطين، اذن، لن تحل بالاعتراف بدولة اسرائيل يأتي من أي جانب عربي لانها مشكلة ارض مغتصبة، لا من أي جيل من الشعب العربي يملكها وحده فيملك التصرف فيها، ولا من أي جزء من الشعب العربي يملكها وحده فيملك ان يتنازل عنها، بل مغتصبة من الامة العربية واجيالها المتعاقبة. ومن هنا ندرك جسامة خطأين متداولين في طرح مشكلة فلسطين :
الخطأ الاول هو الزعم بأن العدوان الصهيوني موجه ضد دولة عربية أو بضعة دول عربية، وبالتالي تكون المشكلة قائمة بين اسرائيل وبين تلك الدولة أو الدول. صحيح ان الصهيونية المعتدية عندما استولت على الارض العربية كانت الارض التي اغتصبتها جزءا من اقليم (شبه) الدولة التي كانت قائمة في فلسطين تحت الانتداب البريطاني. وعندما اعتدت اسرائيل مرتين سنة 1956 وسنة 1967، ومرات عدة فيما بينهما، اصطدمت بالدول العربية القائمة على الأرض المعتدى عليها. وانها ان تتوسع اكثر تصطدم بدول عربية أخرى لم يدركها العدوان بعد . هذا صحيح لان الارض التي اغتصبتها الصهيونية أو احتلتها اسرائيل لم تكن خالية من البشر ومن الدول . وان الارض العربية التي حددتها لتكون وطنا لدولة اسرائيل ما بين الفرات والنيل ليست خالية من البشر ومن الدول ويثير كل هذا مشكلات جديدة بين اسرائيل والدولة أو الدول العربية المعتدى عليها. مشكلات الاستقلال والامن وضمان الحدود. وتضاف تلك المشكلات الى قائمة المشكلات القومية على أساس ان كل مشكلة في الامة العربية هي مشكلة قومية. صحيح أيضا انه كلما تحرر الشعب العربي في أية دولة عربية من قيود الاستعمار والاستبداد والاستغلال، وكلما نمت مقدرة الشعب العربي في أية دولة عربية على التقدم الاجتماعي، انتبهت الصهيونية الى المخاطر المقبلة التي تتعرض لها مخططاتها فيما لو سمحت لذلك النمو أن يبلغ غايته. اولا: لأنه بقدر ما يتحرر الشعب العربي بقدر ما يستطيع أن يحل مشكلة فلسطين . وثانيا : لان محاولات التقدم ولو في ظل الاقليمية لن تلبث أن تعلم الجادين فعلا في ممارسة التنمية انهم يفتقدون الامكانيات المادية والبشرية الوفيرة المتاحة في الامة العربية وان ” التقدم لا يقوم على أساس التجزئة ” عندئذ يعرفون ان مشكلة فلسطين هي مشكلة تخلف وان الوجود الاسرائيلي قيد ثقيل على محاولات التقدم الاجتماعي فيواجهون دولة الصهيونية بالارادة التي لا تهزم : ارادة التقدم الاجتماعي . وثالثا : لان التنمية في ظل التحرر توفر افضل امكانيات التحرير، ومن هنا لا يكون غريبا مانلاحظه من أن مشكلة فلسطين تزداد حدة كلما تحققت في الوطن العربي خطوة تحررية. وان الصراع ضد الصهيونية يصبح اكثر شراسة كلما تحققت خطوة تقدمية. وان قواها العربية تفرز وتتبلور. رويدا رويدا، في القوى القومية التقدمية. ألم نر كيف انها الآن سنة 1971 أكثر حدة من سنة 1948. وان اسرائيل قد اصبحت اكثر شراسة من ذي قبل. وانها تدخر قوتها الضاربة وتعدها وتستعملها لهدم كل تقدم بناء في الجمهورية العربية المتحدة، حيث يعيش ثلث الامة العربية، وحيث تقوم اكثر الجهود جدية في البناء الاجتماعي . ويبدو الامر من تتابع العدوان وتوقيته كما لو كان الاسرائيليون يضعون خطط الهدم على أساس خطط التنمية في الجمهورية العربية المتحدة . عدوان يهدم ، ثم فترة ليتفرغ فيها الشعب العربي لاعادة البناء ويبذل في كل هذا ما يتجاوز طاقته من تضحيات بشرية ومادية ومالية، وعندما يقارب البناء مرحلة الاثمار، أي في تلك اللحظة المنتقاة حيث يكون الشعب العربي على وشك ان يذوق ثمار جهده ، تختلق الذرائع ويأتي عدوان اسرائيلي جديد ليهدم … وهكذا. ألم نر كيف تحول الصراع منذ سنة 1967 من معركة تهزم فيها القوات أو تنتصر ثم تنفض الى سباق حياة أو موت بيننا وبين اسرا ئيل . ولم تستطع اسرائيل – هذه المرة- أن تضرب ثم تعود فتسرح قواتها وتعد نفسها لجولة قادمة. بل اضطرت للبقاء في ساحة المعركة والدفاع حتى الموت عن وجودها بان تفرض حتى الموت ذلك الوجود والاعتراف به قبل ان تكمل القوى القومية في الوطن العربي مسيرتها التقدمية.
كل هذا صحيح وواقعي .
ولكنه يقوم على مستوى اسلوب الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين . انها مشكلات ولدتها المشكلة الاصيلة، تنصب مضامينها على متطلبات الصراع وعدة النصر فيه. فهو لا يطغى على مشكلة فلسطين ولا يغيرمن حقيقتها ولا يقوم بديلا عنها. ولو كانت اسرائيل تعلم ، أو حتى تتوهم ، ان التقدم الاجتماعي في أية دولة عربية، لن يبنى لها من بين ما يبنى، القبرالذي تدفن فيه، لما همّها في كثير أو قليل ان تقوم بجوارها دولة نامية تتبادل معها السلع والخدمات والخبرات. أو لما بلغ اهتمامها حد القتال لهدم البناء التقدمي في الدول العربية. انما هي تهدم لانها تعلم ان ذلك البناء أحد اساليب النصر في الصراع الذي تثيره مشكلة فلسطين. وهكذا تبقى مشكلة فلسطين، كما هي ، مشكلة اغتصاب الارض العربية بصرف النظر عن الدولة أو الدول التي كانت قائمة، والقائمة، والتي قد تقوم على تلك الارض. ذلك لان الأرض التي تقوم عليها الدول العربية ليست أرضا خاصة بتلك الدول أو بشعوبها . ان للشعب العربي في كل دولة حقا بينها مشتركا بينه وبين باقي، الشعب العربي خارج حدودها السياسية. ومن هنا لا نستطيع أن نفهم ، من الموقف القومي، كيف يمكن أن يكون اغتصاب أو احتلال أية ارض عربية هو مشكلة ” خاصة “ بين المعتدين وبين الدولة أو الدول العربية التي تلقت ضربة العدوان . فلا نفهم ان يكون اغتصاب الارض العربية سنة 1948 واحتلال مزيد من الارض والمياه الاقليمية في سنتي 1956، 1967 وما بينهما مشكلات اقليمية قائمة بين اسرائيل والدول العربية ” المعنية ” كما يقولون . وعندما لا نفهم المشكلات على هذا الوجه الزائف نرفض- من ناحية- ان تتنازل أية دولة عربية عن أرض فلسطين المغتصبة سنة 1948 فتعترف باسرائيل ولو في مقابل استردادها للارض المحتلة في سنة 1967. ونرفض- من ناحية ثانية- أن تتنازل أية دولة عربية عن ذرة من الارض التي تقوم عليها لاسرائيل ولو في مقابل استرداد ما يتبقى من ارض محتلة. ونرفض- من ناحية ثالثة- ان تكون مسؤولية تحرير الارض المحتلة والارض المغتصبة واقعة على عاتق جزء من الشعب العربي دون الشعب العربي كله من المحيط الى الخليج . كما نرفض ان تساوم بعض الدول العربية على جزء من الوطن العربي لتسترد جزءا منه، نرفض ان يهرب جزء من الشعب العربي من المعركة ليتحمل جزء منه مسؤولية الامة العربية كلها .
مشكلة فلسطين اذن مشكلة قومية وليست مشكلة اقليمية.
واذا كان الصهاينة وحلفاؤهم يزعمون ولا يكفون عن ترديد مزاعمهم بأن مشكلة فلسطين هي مشكلة حدود آمنة واعتراف متبادل بين اسرائيل وجاراتها من الدول العرببة فذلك ما يقوله المعتدون وحلفاؤهم ليكسبوا به جولة الصراع حول وجود اسرا ئيل وليبدأوا بعده مراحل بناء دولة الصهاينة، حربا حربا، ما بين الفرات والنيل . وعندما ننزلق نحن فننسى أن مشكلة فلسطين هي مشكلة اغتصاب ارض فلسطين ( أليس هذا بدهيا؟…) ونطرحها كما لو كانت مشكلة توسع على حساب دولة أو اكثر من الدول العربية نكون قد سلمنا للصهيونية بما اغتصبت من الارض العربية قبل سنة 1967. وعندما ينسى الاقليميون الامة العربية التي ينتمون اليها والواقع القومي الذي تثور فيه المشكلة ويرددون كالببغاوات العجماء ان لكل دولة ” عربية ” شعبها الخاص وأرضها الخاصة وتاريخها الخاص ومصيرها الخاص… ويناقضون القومية بالاقليمية، يناقضون الكل بالجزء، يناقضون الشامل بالمحدود، يناقضون العام بالخاص، فيفتعلون بكل هذا تناقضات غير قائمة، انما يخفون التناقض الحقيقي القائم بين الشعب العربي والوجود الاسرائيلي، وينتصرون فيه للصهيونية وحلفائها بترديد دعاواهم الزائفة. اذ عندما ينحرفون الى المواقع الاقليمية ويزعمون ان لكل دولة عربية وجودا ومصيرا خاصا مستقلا يواجهون بأن الاستقلال علاقة ذات طرفين . استقلال بالنفس عن الغير. والغير هنا هو شعب فلسطين وارضه المغتصبة. ويصبح تدخلهم في مشكلة فلسطين تجاوزا لاستقلالهم واعتداء ، أو تطفلا ، على ا ستقلال الاخرين يستحق الردع أو يستحق السخرية. ويسخر العالم كله فعلا من الذين يدعون انهم مستقلون بوجودهم ومصيرهم عن فلسطين ثم لا يتركون فلسطين لمصيرها. وعندما تطرح مشكلة فلسطين على الذين يرددون المنطلقات الاقليمية لا يكون امامهم الا الاحتكام الى القواعد الدولية التي تنظم علاقة الجوار فيها بين الدول : الاعتراف المتبادل وتبادل التمثيل السياسي ودعم الصداقة… أو- على الاقل- قبول حماية الدول لحدود دولهم لتضيع أرض فلسطين الواقعة خارج تلك الحدود. فهل يقبلون ما تنتهي اليه منطلقاتهم أم هي اخطاء غبية؟
الخطأ الثاني المتداول فيما يطرح عن مشكلة فلسطين ليس الا ” تطبيقا خاصا ” للخطأ الاول . انه الزعم بأن مشكلة فلسطين هي مشكلة خاصة بشعب فلسطين . يقولون ان شعب فلسطين هو الذي كان يعيش على الارض المغتصبة. وهو الذي طرد منها . وهو الذي ما يزال مشردا ” بدون أرض وبدون هوية ” . وهو الذي سيعود الى الارض عندما تسترد . فهي مشكلته الخاصة. هل يستطيع أحد أن ينكر أن اغلب الذين كانوا يعيشون على الأرض المغتصبة هم الذين طردوا منها بالامس ، المشردون خارجها اليوم، العائدون اليها غدا؟… لا أحد. ان ا حتجوا بالواقع غير المنكور ترسي القومية له أسسه العقائدية : ” ان وحدة الوجود القومي تعني اختصاص الشعب بالوطن . ولما كان الشعب امتدادآ من البشر على الارض فان وحدة الوجود القومي لا تناقض ولا تلغى ولا تنفى ولا تحول دون اقامة جزء من الشعب على جزء من الوطن . فتلك هي الممارسة الفعلية التي تجسد وحدة الوجود القومي ” . عودة المطرودين المشردين الى الارض المغتصبة ليست- اذن- مجرد استرداد للمزارع والمصانع والمتاجر والمنازل، ليست مجرد عملية انقاذ لسكان المخيمات ، انها اكثر من هذا عمقا وضرورة . انها الممارسة الفعلية التي تجسد وحدة الوجود القومي . ومع هذا فليست مشكلة فلسطين مشكلة ” خاصة ” بشعب فلسطين . اذ ان هذا هو الوجه الثاني من عملة الاقليمية الزائفة فحيث لا تتوافر لهم شجاعة الكشف عن الوجه الخاص بهم ليقولوا ان مشكلة فلسطين ليست مشكلتنا الخاصة، يكشفون الوجه الاخر فنقرأ ” مشكلة فلسطين هي مشكلة خاصة بشعب فلسطين ” ويسترون هذا الخداع بأكثر الصيغ عطفا على شعب فلسطين : رفع الوصاية عن شعب فلسطين، عدم التدخل في شئون شعب فلسطين ، حق تقرير المصير لشعب فلسطين ، الحقوق ” القومية ” لشعب فلسطين ، التحالف مع شعب فلسطين ، بطولة شعب فلسطين… الى آخر تلك الصيغ الزائفة مهما تكن عاطفية. اذ ان حصيلتها النهائيه ان اذهب شعب فلسطين وربك فقاتلا انا هنا قاعدون .
عندما يصدر هذا كله أو بعضه من الاقليميين الذين لم يطردوا ولم يشردوا من ارض فلسطين ولن يعودوا اليها ولو كانت خالية من اسرائيل يكون مفهوما تماما. انها الاقليمية الهاربة من الصراع من اجل استرداد ارض لا تعتبرها ارضها ، المتطلعة الى الافلات من مشكلة لا تعتبرها مشكلتها. والتي لا مانع لديها في كل الحالات ان يقبل المطرودون التعويض بدلا من العودة. ان يبيعوا ارض الوطن لمن يستطيع ان يدفع الثمن ، ثم تبقى اسرائيل . اما ان يصدر هذا كله او بعضه من المطرودين المشردين أنفسهم فذلك أمر غريب مريب . ان يقل المطرودون المشردون من الارض المغتصبة أن مشكلة فلسطين هي مشكلة خاصة بشعب فلسطين لا يفعلون شيئا سوى ابتلاع الطعم المسموم الذي القته الاقليمية في افواههم . ويكون عليهم ان يتمثلوا نتائجه القاتلة حتى النهاية : السماح للاقليميين بالهروب من المعركة، وصد القوميين عن الاسهام في المعركة، ومحاولة استرداد الارض الخاصة بهم من مواقعهم في الارض التي تخص غيرهم . وعندما يواجهون الاقليمية المخاتلة تقول لهم استردوا ارضكم كما تشاءون ولكن لا تمسوا سيادتنا على أرضنا ، وتدفعهم بالعطف المخادع أو بالقوة الغاشمة الى أن يقبلوا جزءأ من الارض المغتصبة ليقيموا عليها ” دولة فلسطينية ” تكون بمجرد قيامها اعترافا حيا بدولة اسرائيل… حينئذ سيشعرون ببرودة الموت الذي دفعتهم اليه الأقليمية. فهل يقبلون ما تنتهي اليه منطلقاتهم أم هي اخطاء غبية؟.
ليس ثمة أمة تخلو من الخونة. ولكنا لا نستطيع أن نسند الخيانة الى أي عربي لا نملك على خيانته دليلا غير قابل للشك. فقد علمتنا القومية أن مصيرنا مرتبط – بمصير أبناء امتنا حتى الاغبياء منهم والمخطئين . فلنقل اذن انهم لا يقبلون ما تنتهى اليه منطلقاتهم . كل هؤلاء الذين يشوهون مشكلة فلسطين، أو اغلبهم، فيطرحونها كما لو كانت مشكلة دينية، أو مشكلة نظم اجتماعية، أو مشكلة دولية، أو مشكلة اقليمية… لا يقبلون الوجود الاسرائيلي في فلسطين ويجتهدون- بحسن نية- لحل مشكلة لم يفهموها فهما قوميا فلم يفهموها فهما صحيحا، فتأتي الحلول خاطئة. انهم اذن يخذلون انفسهم وتلك قمة الغباء . الا يقولون جميعا ان مشكلة فلسطين مشكلة ” عربية ” ويستغيثون بالمائه مليون عربي بدون أن يقولوا انها مشكلة ” قومية ” ثم لا يفطنون الى ان العروبة التي لا تعني الانتماء الاجتماعي والمصيري الى الامة العربية. هي كلمة ” فارغة ” من أي مضمون لا يقوم عليها التزام بغاية. الا يقولون انه صراع ديني ولا يفطنون الى ان الوطن العربي هو مصدر الاديان وان حركة التقدم العربي في تاريخها الطويل قد جمعت الاديان جميعا. الا يتذكرون أن الصهيونية قد اعتدت أولا والنظم العربية عميلة للاستعمار، واعتدت ثانيا والنظم العربية متحررة، واعتدت اخيرا والنظم العربية تقدمية وفي كل مرة كانت تستهدف الارض لتخليها من البشر ثم يقولون انه صراع بين النظم الاجتماعية؟… الا يعرفون ان الدول الاستعمارية هي التي كانت وما تزال تصنع القرارات الدولية، بالقوة، ومع ذلك يحتجون بالقرارات الدولية؟… ألا يعلمون انه عندما وضعت الصهيونية مخططات اقامة دولتها على الارض، العربية واختارت فلسطين بداية في مؤتمر بال سنة 1897 لم تكن ثمة أية دولة عربية قائمة في الوطن العربي، لا في فلسطين ولا في غير فلسطين، بما تعنيه الدولة من سيادة على الارض، بل كان الوطن العربي اما جزءا من الدولة العثمانية واما أجزاء يحتلها المستعمرون الاوروبيون ، ثم يزعمون ان الصهيونية تقصد بالعدوان هذي أو تلك من الدول العربية… الا يرون أن ” الممارسة ” الفعلية للصراع بين الشعب العربي والحركة الصهيونية حول الارض المغتصبة في فلسطين يثبت ان مشكلة فلسطين مشكلة قومية، فتدخل حلبة الصراع الذي تثيره اجيال متعاقبة من الشعب العربي، من كل مكان في الوطن العربي، من كل دين، من كل طبقة، من كل دولة، بدون توقف على القرارات الدولية.. ولا يسمح الصراع ذاته لاي جيل عربي، أو أي جزء من الشعب العربي ، أو أية ” طبقة ” أو أية دولة ان تهرب من حلبته فيقتحم العدوان الصهيوني واثاره المخربة كل مكان في الوطن العربي لا يمنعه الهرب ولا تصده القرارات الدولية؟… فلماذا هذا الاصرار الغبي على انكار القومية وهي العلاقة الوحيدة التي تفسر الممارسة وتبررها وتمكننا من النصر فيها فلا تخذلهم ولا تهزم غايتهم ان كانوا- حقا- لا يقبلون الوجود الاسرائيلي في فلسطين؟..
ان كان كل هذا غائبا عن ” فطنة ” الذين يشوهون مشكلة فلسطين ، وعجز الموقف القومي عن ان ينبههم الى ما يخذلون به أنفسهم فلعلهم ينتبهون اليه عندما يعرفون الموقف الصهيوني من مشكلة فلسطين . لعلهم ، ان كانوا عاجزين عن تحديد مواقفهم ” عقائديا ” من مشكلة فلسطين أن يأخذوا الموقف المضاد لاعدائهم بعد أن يعرفوه، ولو عرفوه ثم أخذوا منه موقفا مضادا لوجدوا أنفسهم في الموقف القومي وان كانوا قد وصلوا اليه كرد فعل لا كفاعلين .
3- الموقف الصهيوني :
نشأت الصهيونية في اوربا نتيجة عدة عوامل متفاعلة.
اولها: ان ” التوراة ” التي يتداولها اليهود، وهي كتاب ظهر لاول مرة في عهد الملك يوشا بعد وفاة موسى بن عمران بسبعة قرون كاملة (سفر الملوك الثاني ، اصحاح 22) ، علمت وتعلم اليهود انهم ” شعب الله المختار ” وتضعهم في موقع العزلة الممتازة من الشعوب الاخرى . وتسند التوراة هذا الاختيار الى اعجاب الله بقوة يعقوب ولذلك تحدد لليهود مضمون امتيازهم على الاخرين بانهم أقوى من غيرهم . ذلك لان الله قد اختارهم واسمى يعقوب ، جدهم الاعلى ، باسم ” اسرائيل ” على أثر مصارعة جسدية قامت بين يعقوب وهو في طريقه الى ارض كنعان وبين الله ذاته ، لم يهزم فيها يعقوب فاعجب به الله وباركه واختاره ( سفر التكوين 322 اية 25- 29) وهكذا استقر في اذهان اجيال متعاقبة من اليهود، ” ايمان ” بانهم شعب قوي ممتاز اختاره الله فاختصه برعايته دون البشر اجمعين ، وحذره من الاختلاط بالشعوب الاخرى حتى لا تلوث نقاءه . ” اني ادفع الى ايديكم سكان الارض فتطردوهم من امامك . لا تقطع معهم ولا مع الهتهم عهدا. لا يسكنوا في ارضك لئلا يجعلوك تخطىء ” ( سفر الخروج، اصحاح 33 آية 22،23) . وقد ادت تلك الاساطير القبلية الى ان اصبحت اليهودية، بالنسبة الى المتدينين من اليهود ، تتضمن ” عنصرية ” مقدسة تجمعهم على عداء ” مقدس ” للشعوب .
ولم يكف كهنة اليهودية عن تغذيتها بحيث اصبحت القيم اليهودية ذات حدين، فبينما تفرض على اليهود التزامات وثيقة بالتضامن الاجتماعي فيما بينهم تبيح لهم ان يعاملوا الشعوب الاخرى بدون قيد اخلاقي أو اجتماعي . قال حكماء صهيون : ” اضربوهم وهم يضحكون . اسرقوهم وهم لاهون . قيدوا ارجلهم وانتم راكعون . ادخلوا، بيوتهم واهدموها. تسللوا الى قلوبهم ومزقوها ” . أما ” يهو” الاله الخاص ببني اسرائيل فقد وعد شعبه المختار بان يقوده ” الى مدن عظيمة لم تبنها، وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها، وآبار محفورة لم تحفرها، وكروم زيتون لم تغرسها، (سفر التثنية. اصحاح 6 اية 11) وتكمل الاساطير البناء الاجتماعي القبلي فتقدم الى اليهود وحدة الاصل لتؤدي وظيفتها في التضامن الاجتماعي الداخلي فتقول ان كل اليهود، في كل مكان من الارض، ومن أي جنس، وأي لون ، هم سلالة الاسباط الاثنى عشر ابناء يعقوب (اسرائيل) بن اسحاق بن ابراهيم، ووحدة الرمز (الطوطم) في جبل صهيون الذي دارت فوقه المصارعة التي اثبتت قوة اسرائيل (يعقوب) التي لا تقهر .
اننا نتعرف في كل هذا على خصائص الطور القبلي الذي مرت به كل المجتمعات : الاله الخاص، والاصل الواحد، والتضامن الداخلي ، والعدوان الخارجي ، وتمجيد القوة . وهو طور كان سائدا في جميع انحاء العالم يوم ان ظهرت التوراة لاول مرة في اوائل القرن الخامس قبل الميلاد . وعلى هذا فان اليهود لم يكونوا بدعة قبلية لا في تكوينهم ولا في اساطيرهم يوم ان كانوا طرفا في الصراع القبلي الذي كان يدور في كل مكان من الارض والذي انتصروا فيه مرات وانهزموا فيه مرات ثم انتهى بهزيمتهم النهائية عسكريا بالغزو الروماني وفكريا بظهور المسيحية. ثم جاءت مرحلة الاستقرار على الارض بالفتح الاسلامي فدخلت بقايا القبائل اليهودية في شرق وجنوب البحر الابيض المتوسط مع غيرها من القبائل والشعوب الاخرى ، مرحلة التكوين القومي واصبحوا عربا. ولعل مثل هذا التطور أن يكون قد حدث في كل مكان عاش فيه اليهود، الا اوربا .
ففي اوربا عاش اليهود قرونا منعزلين في احياء مقصورة عليهم عرفت باسم ” الجيتو ” حتى نهاية القرون الوسطى . ولم يكن أي ” جيتو” الا مجتمعا قبليا مغلقا على اصحابه حبس تطور الجماعات
اليهودية في اوربا عند الطور القبلي لا يتجاوزونه. وكان مرجع ذلك الى ان اليهود في اوربا كانوا محاصرين بتعصب كنسي يظن ان له عند اليهود ثأرا قديما : صلب المسيح . من اجله طردهم فيليب اوجست من مملكته. ومن إجله أمر البابا أنوسنت الثالث بأن يميز اليهود بعلامات توضع على ملابسهم.. ومن اجله احرقت كتب اليهود في الميادين العامة. وقد يكون وراء كل هذه الاساطير ذلك السلاح الاستغلالي الفتاك الذي يجيده اليهود : الربا . فبينما كانت الكنيسة تحرم الربا، كانت اليهودية تأخذ منه موقفها القبلي، فى تحرمه فيها بين اليهود وتبيحه إذا كان ضحيته غير يهودي وعن طريقه موّل اليهود في اوربا أمراء الاقطاع في حروبهم التي لا تنتهي وفي ترفهم الذي لا يشبع فسيطروا عليهم وسيطروا على الشعوب من خلالهم وكان رد الفعل تحديد اقامتهم في اماكن خاصة وتحريم كثير من أنواع النشاط المنتج عليهم .
أيا ما كان الأمر فان اليهود في اوربا ظلوا حتى نهاية القرون الوسطى في الطور القبلي بكل خصائصه التي عرفناها. ثم جاءت الثورة الليبرالية فاطاحت بالتعصب الكنسي، وانهت قضية الثأر القديم، بل وادت ، على المستوى الديني ذاته ، الى لقاء بين المسيحية واليهودية في المذهب البروتستنتي، وتجسد كل هذا في اعلان حقوق الانسان الذي اصدرته الثورة الفرنسية التي حرصت على الغاء كلمة الدين من أية وثيقة دستورية ، وكانت في كل هذا نموذجا للثورات التحررية التي عمّت اوربا وانهت عهد الاقطاع . وهكذا، بعد تخلف حضاري طويل، فتح باب التطور واسعا امام اليهود ليغادروا الطور القبلي ويندمجوا في المجتمعات الاوربية التي يعيشون فيها . وقد غادرته الكثرة الغالبة منهم خاصة في- اوربا الغربية حيث اصبحوا افرادا عاديين في مجتمعاتهم ، وتخلفت عن الركب الحضاري قلة قبلية متناثرة في اوربا الشرقية المتخلفة بدورها. وقد كان من الممكن أن ينتهي الامر بتلك القلة- الى ان تتطور وينتهي عهد العصبية اليهودية لولا ان الليبرالية التي جاءت بالتسامح الديني في ظل ” الاخاء والحرية والمساواة ” قد جاءت أيضا بالنظام الرأسمالي .
بقانون المنافسة الحرة واطلاق الافراد من أي التزام من قبل المجتمع الذي ينتمون اليه. ثم بعدم تدخل الدولة في النشاط الفردي على أساس ان ” مصلحة المجتمع ستحقق حتماً وتلقائيا من خلال تحقيق كل فرد مصلحته ” بحكم القانون الطبيعي . واخيرا باباحة الكذب والغش والخديعة والتعسف والربا والغبن والاكراه الاقتصادي والادبي طبقا للقاعدة القانونية الليبرالية الشهيرة : ” القانون لا يحمي المغفلين “. فاتاحت الرأسمالية للعنصرية اليهودية المتخلفة اوسع الفرص لتجسد- ايجابيا- عداءها القبلي ” المقدس ” للشعوب بوسائل اصبحت مشروعة في ظل الليبرالية. وتحول كل “جيتو” الى وكر تآمر وتخطيط وتعبئة نشيط ومعادٍ لكل ما ومن ليس يهوديا . وانطلقت العنصرية اليهودية بذهنية ” المؤمنين ” بامتيازهم في مجتمعات يرفضون الانتماء اليها، في ظل نظم تبيح لهم الاستغلال، ليفرضوا سيطرتهم على الشعوب بكل الوسائل . ولم يكن غريبا ان ينتهي كل هذا الى ان يصبح اليهود في المجتمعات الرأسمالية هم سادة ” المال ” المسيطرين على ارزاق الناس من خلال البنوك. ان هذا أمر جدير بالتأمل . لماذا يفضل اليهودي عنصر المال ليكون مجال نشاطه وأداة سيطرته كما لو كان مثله الاعلى هو ” تاجر البندقية ” ؟ .. ألأن تلك هي الصنعة التي احتكروها فاتقنوها في ظل الاقطاع ؟ أم لأن عنصر المال هو، في التحليل الاخير، مناط السيطرة في الاقتصاد الرأسمالي؟… أم لان ” الفائدة ” اكثر ضمانا من ” الربح ” ؟.. قد يكون السبب واحدا أو اكثر من هذا كله ، وقد يكون هذا كله مجتمعا في تقاليد ” حرفية ” كما كان الامر بالنسبة الى الصناعات الاخرى في ظل الاقطاع حيث تتجمع كل طائفة من الناس حول ” حرفة ” واحدة يحتكرونها ويتوارثونها ، ولكنه ما بقى بعد انقضاء عهد الحرفيين الا لأنه يتفق مع العنصرية القبلية الموروثة. ذلك لأن النظام الرأسمالي في نشأته كان نظاما تقدميا بالنسبة الى النظام الاقطاعي الذي كان سائدا في اوربا في قبله. وقد استطاعت الرأسمالية أن تحول المجتمعات الاوربية الزراعية الى مجتمعات صناعية وان ترسي أسس حضارة مادية وعلمية معا حققت قدرا من التقدم الاجتماعي يمثل الجانب الايجابي البناء من اثارها. ويبدو ان الخلفية المعادية للشعوب التي كانت ثمرة الجمود العنصري الذي تربت عليه اجيال متعاقبة من اليهود في اوربا ، حالت دون ان يجد اليهود في البناء الاقتصادي وما يصاحبه من تقدم اجتماعي ما ” يغريهم ” فاختاروا البنوك كأدوات للسيطرة على المجتمعات ولم يختاروا ” المصانع ” لانها أدوات البناء الاجتماعي . وسيختارون بعد ذلك ا لصحافة والاعلام عندما تصبح أدوات للسيطرة . وسيختارون الارهاب المسلح ويتقنون استعماله كما اتقنوا استعمال المال والصحافة والاعلام في المجتمعات التي عاشوا فيها . كل ذلك لسبب بسيط هو انهم لا يعتبرون تلك مجتمعاتهم ليسهموا في بنائها بل يعتبرونها اعداءهم فعليهم بأمر “يهو” أن يسيطروا عليها أو يخربوها. ان هذا يفسر- فيما نعتقد- الصورة الاوربية لليهودي الجبان الذليل الخائن.. وليس الجبن وقبول المذلة والخيانة لصيقة بأي دين وعلى وجه خاص ليست واجبا دينيا على اليهود الذين يعلمهم دينهم الشراسة ويمجد العدوان ويقيم امتيازهم على القوة الجسدية التي من اجلها اصطفاهم الله شعبا مختارا . انما كان الجبن والخيانة وقبول المذلة تعبيرا عن- رفض اليهودي مخاطر المغامرة الايجابية وضريبة الوطنية من اجل المجتمع المرفوض اصلا . وكان قبول المذلة تحايلا على المجتمع الاقوى ” قيدوا ارجلهم وانتم راكعون ” . باختصار يلتزم اليهودي قيمه القبلية الخاصة ويرفض الالتزام بقيم المجتمع الذي يعيش فيه فيبدو شاذا في مجتمعه لانه يرفض الاندماج فيه، ولا يرى هو في موقفه شذوذا لان الانعزال عن ” الغرباء ” والعداء لهم فضيلة قبلية.
على أي حال ، عندما انتبهت الشعوب الاوربية الى الاستغلال الرأسمالي الذي ابتلع أو كاد المكاسب التي كانت مأمولة من وراء ثورات التحرر من الاقطاع التفتت الى تلك ” الطائفة القبلية ” التي تقاوم التطور الحضاري وتجسد الكراهية. والاحتقار لكل من لا ينتمي اليها ، وتتآمر خفية فتصنع لها لغات خاصة لا يعرفها غيرها ( الييدش في شرق اوربا وهي مشتقة من الالمانية واللادنيو في غرب اوربا وهي مشتقة من الاسبانية) ، وقبل هذا وفوقه تموّل النظام الرأسمالي وتدير حركته الاستغلالية من مقاعدها في البنوك. وكان للمستغلين الرأسماليين من غير اليهود مصلحة لا شك فيها في ان يوجهوا غضب الجماهير المقهورة بعيدا عن النظام الرأسمالي الاستغلالي فاشتركوا بوسائل شتى في تركيز الانتباه على العنصرية اليهودية ، وحملوها وحدها مسئولية الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي الذي تعانيه الشعوب، حتى تخرج الرأسمالية بريئة. وهكذا تعاظمت موجة كراهية اليهود واحتقارهم واضطهادهم التي عرفت بـ ” معاداة السامية ” . اما لماذا السامية مع ان يهود اوربا ليسوا ساميين ، فلأنهم لو اسموها اسما ” معاداة اليهودية ” لفضحت دعاوى التحررية والعلمية التي تروجها الرأسمالية المنافقة. وهكذا نمت مشكلة اليهود في اوربا من بذور عنصرية طائفية متخلفة تغذت من عفن الرأسمالية المستغلة.
ولم يكن حل المشكلة خافيا حتى على الاغلبية الساحقة من اليهود الذين تحرروا من البداوة القبلية واندمجوا في مجتمعاتهم . فقد كان الحل يقتضي ان تتحرر الاقلية اليهودية من اساطيرها الخرافية وان تتجاوز الطور القبلي لتندمج في المجتمعات التي تعيش فيها كما فعلت الاكثرية . وكانت الاشتراكية المطروحة افكارها بقوة خلال القرن التاسع عشر تمثل الامل الاجتماعي الذي تنتهي به، والى الابد، كل أنواع القهر . كان ذلك هو الحل التقدمي لمشكلة اليهود في اوربا ومشكلة المجتمعات الاوربية بما فيها من يهود . وضد هذا الحل بالذات تحالفت اقلية يهودية متخلفة تقاوم حركة التطور وتتحالف مع الرأسمالية الاستعمارية التي تستغل البشر جميعا بما فيهم الاقليات المتخلفة.
وشهد عام 1897 مولد منظمتين من العنصريين اليهود. كل منهما منظمة ” صهيونية ” . ستحاول المنظمة الاولى افساد حل المشكلة اشتراكيا فتفشل . ينجح الحل ويهرب العنصريون . وتقوم الثانية بالتحالف مع القوى الاستعمارية فتنتجح الى حين فتقوم في الأرض العربية دولة عنصرية في سنة 1948.
أما المنظمة الاولى فهى ” الاتحاد العام للعمال اليهود في روسيا وبولندة ” ( البوند) . ويلاحظ منذ البداية انها منظمة لليهود دون غيرهم في كل من روسيا وبولندة أي بدون اعتداد بالانتماء القومي لأي من الامتين الروسية والبولندية لانها تعتبر أن ” اليهودية ” رابطة ثالثة وذلك هو مميزها العنصري . ومن ناحية ثانية انها منظمة عمالية تستهدف الاشتراكية وقد اصبحت جزءا. من “حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي ” القائم على منطلقات فكرية ماركسية. فقد تشكل ” البوند ” سنة 1897 كواحد من المنظمات العديدة التي كانت تكون ما عرف باسم الحركة الاشتراكية الديموقراطية في شرق اوربا. وقد اجتمعت تلك المنظمات في منسك سنة 1898 واتفقت على أن تتوحد في ” حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي ” الذي تم انشاؤه فعلا في المؤتمر الثاني (التأسيسي) الذي انعقد في بروكسل ثم في لندن سنة 1903. وفي ذلك المؤتمر التأسيسي اقترح ممثلو ” البوند ” أن يكون هو الممثل ” للبروليتاريا ” اليهودية داخل اطار ” حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي ” الذي يجب أن يقوم على أساس فيدرالي . ولم يقبل المؤتمر رأيهم استنادا الى أن ” الفيدرالية ” تضعف قوة الحزب المركزية فانسحب ممثلو ” البوند ” من المؤتمر، وحدث الانشقاق بين البلشفيك والمنشفيك ، ولكن البوند ، والبلشفيك، والمنشفيك، كلهم بقوا اعضاء في الحزب حتى المؤتمر الرابع (التوحيدي) الذي انعقد في استوكهلم سنة 1906. وفيه حصل ” البوند ” على اعتراف الحزب بوضعه الخاص كممثل للماركسيين اليهود، في ذلك الوقت كان الحزب يضم عديدا من المنظمات و ” الشلل ” التي تتنازع المعرفة بالماركسية وتمثيل الطبقة العاملة، وكان ” البوند ” وا حدا منهم ، ولم يكن البلاشفة بزعامة لينين الا شلة أخرى لم تنتصر بعد في الصراع الايديولوجي الذي كان ثائرا فيما بينهم ودار اغلبه حول ماعرف باسم ” المسألة القومية”. ولما لم تكن ثمة ” نظرية ماركسية في القومية ” (4) ، وكان الامر متروكا للاجتهاد من خلال الممارسة لم يجد الماركسيون تناقضا بين أن يكون اليهود عنصريين وماركسيين معا. ولقد كانت الممارسة سنة 1906 تقتضي وحدة كل الماركسيين والاشتراكيين لأن الثورة ضد القيصرية كانت قد بدأت سنة 1905 لتنتهي بالفشل سنة 1907. ولقد شن النظام القيصري ، بعد فشل الثورة، حرب ابادة وحشية ضد كل الذين حرضوا عليها أو قادوها أو اسهموا فيها أو رحبوا بها. وكانت مجزرة. هاجر على اثرها جانب كبير من اليهود كما هاجر لينين نفسه ثم يعود لينين سنة 1917 ليقود الثورة مرة أخرى وينجح . ويخوض الماركسيون ابتداء من سنة 1917 حربا اهلية شرسة ضد الثورة المضادة فتهاجر دفعة أخرى من اليهود “الاشتراكيين”. اولئك الذين قدموا لنا امثال ويزمان وبن جوريون وشاريت . ولنا هنا ثلاث ملحوظات . الاولى ما قيل من أن حرب الابادة التي شنها القيصر بعد فشل ثورة 1905 كانت موجهة ضد اليهود لان القيصر كان من أعداء السامية ، وهو غير صحيح . فقد كانت ثورة مضادة لتصفية قوى ثورة 1905 ولم يكن اليهود ولا ” البوند ” نفسه هم القوى الاساسية أو الوحيدة في ثورة 1905 الفاشلة . الملحوظة الثانية ان كل القوى التي هاجرت بعد فشل الثورة أو نفيت الى مجاهل سيبيريا لم تتوقف عن الكفاح ولم تلبث أن اجتمعت في ساحة ثورة 1917 المنتصرة ، الا العنصريون اليهود من اعضاء البوند. فما ان غادروا أرض الوطن حتى نسوا الماركسية والاشتراكية والطبقة العاملة وتحالفوا مع القوى الاستعمارية. الملحوظة الثالثة ان الكثرة من اليهود المتحررين من العنصرية الذين بقوا في الاتحاد السوفيتى بعد نجاح الثورة واسهموا في بناء الاشتراكية قد اندمجوا في مجتمعهم بيسر ذي دلالة قوية على أن مشكلة اليهود في اوربا هي مشكلة العنصرية والاستغلال وليست مشكلة افتقاد ارض يعيش عليها اليهود . فما ان يتحرر اليهود من التخلف القبلي ويتحرر المجتمع من الاستغلال الرأسمالي حتى تنتهي المشكلة . وليس ادل على هذا من ان الاتحاد السوفيتى يضم ” جمهورية خاصة باليهود (بيروبيجان) لم تعد عنصرية. يقيم غير اليهود فيها كما يقيم اليهود في كل مكان من الاتحاد السوفييتى بدون أن توجد مشكلة . وهكذا افسدت العنصرية اليهودية على اصحابها أفضل الحلول التي قدمتها اوربا لمشكلة اليهود . كيف اذن كان العنصريون اليهود ماركسيين واشتراكيين ، وكيف انهم في الارض المغتصبة يقيمون المزارع الجماعية، ويعيشون في جماعات متماسكة، وينتهجون الاسلوب الجماعي في الانتاج ؟… كيف يتفق أن يكونوا عنصريين ما يزالون في مرحلة الطور القبلى وهم – فيما يبدو- ماركسيون أو اشتراكيون؟…
هذه هي الخدعة التي لا يمكن اكتشافها من منطلق مادي على ضوء تطور اساليب الانتاج . ولكنها تصبح واضحة اذا نظرنا اليها من منطلق انساني قومي ” ينظر الى المجتمعات خلال حركتها الجدلية التي لا تتوقف من الماضي الى المستقبل ” 0 ان بين المجتمع القبلي العنصري اليهودي والمجتمع الاشتراكي تقاربا في اسلوب الانتاج الجماعي . ولكن علاقات الانتاج الجماعي مرتبطة بالطور الذي يمر به المجتمع ولا تكون تقدمية بذاتها. والماركسيون أول من يجب أن يعرفوا هذا فعندهم يبدأ التطور الاجتماعي بالشيوعية الاولى وهي أكثر مراحله انحطاطا وينتهي بالشيوعية الاخيرة وهي أكثر مراحله تقدما . وفي كليهما تتشابه علاقات الانتاج الخالية من الملكية الخاصة ومع ذلك لا ينخدع أحد في الفارق الحضاري بينهما . فاذا كان اليهود في الارض المغتصبة يقيمون المزارع الجماعية ويعيشون في جماعات متماسكة فلأن اسلوب الانتاج الجماعي هو اسلوب الانتاج القبلي . ويمكن التمييز بين ما اذا كان اسلوبا قبليا أو اسلوبا اشتراكيا من خلال موقف اصحابه من المجتمعات الاخرى . فعندما يكون مصحوبا بالانغلاق الداخلي والعداء للغير يكون اسلوبا قبليا متخلفا حتى عن اسلوب الانتاج الفردي ، وعندما يكون انسانيا سليما فهو متجاوز اسلوب الانتاج الفردي الى الاسلوب الجماعي الاشتراكي . طبقا لهذا المقياس لا نكون في شك من حقيقة العلاقات الجماعية السائدة في الارض المغتصبة، انها القبائل اليهودية قد انتقلت من ” الجيتو” الى أرض فلسطين لتعيش ذات علاقاتها القبلية المتخلفة : التضامن بين افراد القبيلة والعداء للاخرين. والكابوتز المسلح هو القبيلة التي ما تزال تعيش في القرن العشرين . وفي افريقيا الاف من هذه الجماعات القبلية تعيش معا حياة اكثر جماعية من اليهود في فلسطين ولا يقول احد بانها مجتمعات اشتراكية. ولا يغير من هذا ان المجتمع القبلي في اسرائيل يستعمل ارقى أدوات الانتاج تطورا في هذا الزمان . فمن قبل تعلمت قبائل الهنود الحمر استعمال ارقى أدوات القتال في زمانها ومع ذلك ظلت في طورها القبلي . وتستعمل كل الشعوب – الان- أدوات انتاج متشابهة في تقدمها الفني ومع ذلك تختلف حضارة وتطورا . لان ” كما يكون الناس يكون تطورهم الاجتماعي ” (فقرة 18) . ثم ان ” التفرقة العنصرية” المعترف بوجودها في مجتمعات تبلغ فيها أدوات الانتاج أرقى ما وصل اليه العلم ليست الا المميز القبلي للمجتمعات التي تعيش في ذلك الطور المتخلف وتستعمل أدوات القرن العشرين . ان الجماعية – اذن- هي التي كا نت تغري كثيرا من العنصريين اليهود باعتناق الماركسية، ولكن الماركسية ليست عنصرية. وعندما تتستر العنصرية بالماركسية يكون على كل ماركسي أن ينظر الى المجتمعات نظرة اشمل من أدوات الانتاج وعلاقاته، عندئذ سيتبين بوضوح ان العنصريين في الارض العربية المغتصبة يعيشون في الطور الاجتماعي اللاحق للشيوعية البدائية وليس الطور الاجتماعي السابق على الشيوعية الاخيرة ، وانهم – بالتالي عندما يتطورون سيدخلون الطور الرأسمالي . ويقدم تطورهم منذ سنة 1948 حتى الان دليلأ واضحا على انهم يدخلون مرحلة الفردية. وآيتها الكثرة غير المتناسبة مع عددهم من الاحزاب وهو ما نلاحظه في مراحل الليبرالية الاولى – ويدخلون مرحلة الرأسمالية وآيتها التحالف الذي يزداد يوما بعد يوم مع الرأسمالية الغربية وهذا لا ينفي ان جماعات من الرأسماليين المتحررين من القبلية اليهودية تعيش في اسرائيل أو تحالف الصهاينة خاصة منذ ان اصبحت لهم دولة لتستغل العنصرية الصهيونية ودولتها معا. ولكن ان يكون – في الارض المغتصبة عنصري واشتراكي معا، أو ان يعيش الاشتراكيون في ظل الروابط القبلية التي نسجتها الاساطير والخرافات ، فتلك مقولة لا تستحق الا السخرية .
المهم ان الاشتراكية في الإتحاد السوفيتي قدمت للعنصريين اليهود افضل الحلول التقدمية ليغادروا الطور القبلي . قدمت لهم الارض والامن وفرص الانتاج وعدالة التوزيع . فرفضوها. لماذا؟
هنا يأتي دور المنظمة الثانية التي ولدت عام 1897 أيضا وتحالفت مع القوى الاستعمارية. انها المنظمة ” الصهيونية ” التي تأسست في مؤتمر بال وحددت هدفها بانه اقامة دولة لليهود في فلسطين، وجمعت العنصريين اليهود في اوربا الغربية. وهي المنظمة التي سينضم اليها اصحاب تجربة ” البوند” والتي ستحقق نجاحا مطردا في مخططاتها فتقيم دولة اسرائيل في سنة 01948 انها المنظمة التي جمعت شتات ” القبائل ” اليهودية لتقيم منهم دولة قبلية على ارض فلسطين . واول سؤال تطرحه تلك المنظمة علينا هو لماذا نجحت؟.. وقبل ان نجيب ينبغي أن نذكر ان المجتمعات الاوربية بالرغم . من تقدمها ما تزال عامرة بالجماعات المتخلفة التي لم تتجاوز الطور القبلي . لا نضرب قبائل الغجر مثلا ، بل نضرب مثلا قبائل اللابيين الذين يعيشون في السويد والنرويج وفنلندا وروسيا . ان هذه ظاهرة متكررة في كل الامم ولنا منها نصيب لا ينكر. ومصير كل هذه الجماعات- المتخلفة ان تدرك تطور مجتمعاتها. اذن ، فمهما تكن اساطير العنصرية اليهودية كان التطور الاجتماعي في اوربا كفيلا في النهاية بان ينتزعها من روابطها القبلية لتلحق بمجتمعاتها ، لولا ان ” قوى ” أخرى كان لديها دور تبحث له عمن يؤديه . تلك هي القوى الاستعمارية .
ففي اواخر القرن التاسع عشر كان الاستعماريون قد استولوا على العالم كله وبدأت مهمة المحافظة على مواقعهم فيه. ومن اجل هذا انعقد في لندن سنة 1907 مؤتمر استعماري ليوصي بما يراه كفيلأ بالمحافظة على السيطرة الاستعمارية. وقد قدم عدة توصيات كان نصيب الوطن العربي منها ما يلى: ” ان اقامة حاجز بشري وقريب على الجسر البري الذي يربط اوربا بالعالم القديم ويربطها معا بالبحر الابيض المتوسط بحيث يشكل في هذه المنطقة على مقربة من قناة السويس قوة معادية لشعب المنطقة، وصديقة للدول الاوربية ومصالحها هو التنفيذ العملي للوسائل والسبل المقترحة ” .
وفي سنة 1937 نشر في فرنسا كتاب تحت عنوان ” الله اكبر” يتضمن تقريرا كان مقدما الى احد قادة الحركة الصهيونية في النمسا هو الدكتور فولفجانج فايست يقول كاتبه : ” ان خلاصة الاسباب
الجدية للكفاح من اجل الارض المقدسة هو موقعها الاستراتيجي وتأثيره في مستقبل المنطقة. فلو عادت فلسطين الى دولة عربية موحدة تضم مصر لقامت هناك قوة عربية مسلحة تستطيع أن تتحكم في قناة السويس والطريق الى الهند . أما اذا ظلت فلسطين مستقلة، أو اصبحت دولة يهودية، فانها ستقوم عقبة في سبيل انشاء هذه الدولة الكبرى حتى لو تمت الوحدة بين دولة عربية وأخرى على جانبي فلسطين – ان دولة صغيرة ” حاجزة ” تقوم على 100.000 كيلو متر مربع على ضفتي نهر الاردن ستحمي كل دولة عربية ضد تدخل أية دولة عربية أخرى … ان توازن القوى حول قناة السويس يتوقف اذن على استقلال فلسطين عن العالم العربي . يتوقف على دولة في فلسطين تكون مثل سويسرا عند ملتقى القارات الثلاث . ان هذا الاستقلال يتفق تماما مع طموح الاستعمار اليهودي، ذلك لان اليهود وحدهم هم الذين ستكون لهم مصلحة في هذا الاستقلال وليس العرب، اذ ان هؤلاء سيكونون من الدعاة المتحمسين للاندماج في دولة عربية كبرى (5). وهكذا حالت القوى الاستعمارية دون أن تذوب العنصرية اليهودية في حركة التطور الاجتماعي في اوربا، وغذت تلك العنصرية بادوات القوة وسهلت لها ان تغتصب ارض فلسطين لتكون هناك حارسة لقناة السويس وحائلة دون الوحدة العربية . وضمت صفحات التاريخ اكبر كذبة شهدها التاريخ . اليهود يغتصبون ارض فلسطين فرارا من اضطهاد الدول الاوربية ولكن بمساعدة الدول الاوربية و خدمة لمصالحها.. ابعد ما يكون عن الحقيقة اذن ان يقال ان اليهود ما جاءوا الى فلسطين الا لانهم يفتقدون وطنا يعيشون فيه. انما جاءوا ليغتصبوا الارض العربية ويقيموا دولة حارسة للمصالح الاستعمارية تحول دون أن تحقق الامة العربية كل ما هي قادرة عليه من تطور اجتماعي في ظل دولة الوحدة. جاءوا بمساعدة القوى التي لا تريد لهذا الشعب العريي أن يعيش بما يملك. لم يجيئوا لانهم يهود، ولا لانهم اشتراكيون ، ولا لانهم يريدون الاعتداء على دولة عربية معينة ، ولا لأن المجتمع الدولي كان في حاجة – حتى يسود قانونه- الى وجودهم في فلسطين، بل ليقيموا على الارض العربية مخفرا مسلحا يكرس تخلفها ويمنع وحدتها.
هذي هي الصهيونية كما نراها من الموقف القومي وطبقا لنظريتنا القومية. ولو كنا قد استوعبنا نظريتنا هذي لادركنا من ابعاد مشكلة فلسطين ومخاطرها المقبلة اكثر مما يدرك سوانا. انها نذر على اكبر قدر من الجدية تنذرنا بها نظريتنا القومية التي علمنا أن الامة تدخل مرحلة التكوين القومي باستقرار الجماعات القبلية ( تحمل كل منها لغتها وثقافتها وتقاليدها ) على أرض معينة ومشتركة وبها تحل مشكلة الهجرة وتتميز بالاستقرار على الارض عن الطور القبلي . ثم تبدأ في التكون وتحدد خصائصها خلال مواجهة المشكلات المشتركة والمشاركة في حلها. اذن ، ولينتبه الشباب العربي، أن الصهيونية تحاول منذ 1948 أن ” تصنع أمة ” من اشتاتها القبلية بأن تستحوذ على ارض تكون خاصة بها. ولا بد لكي تنجح من أن ” تستقر” على الارض “وتختص ” بها فترة زمنية كافية تبني فيها حضارتها الخاصة وتصبح بها أمة. وقد كان عام 1948 هو البداية ولكن الزمان أمامهم ما يزال طويلأ، فان الامم لا تتكون في عشرات السنين فلا نجزع . ان الولايات المتحدة الامريكية ذاتها ما تزال، منذ الا ستقلال ، أمة في دور التكوين ولكن الصهاينة دا ئبون على تنفيذ مخططاتهم، ولقد اغتصبوا الارض ولكن لم يستقروا عليها. وعلى أرضها يعيش ثلاثة ارباع مليون عربي واكثر فهي ليست خاصة بهم داخليا ، وقد قطعت معركة 1967 كل استقرار سابق. ولكنهم على أي حال استطاعوا أن يحيوا لغتهم الميتة فاصبحت لهم لغة مشتركة. ولو سمح الشعب العربي للصهاينة بالاستقرار على الارض حتى تكون خاصة بهم ويبنوا عليها حضارة خاصة، فانهم سيصبحون أمة، شاء الشعب العربي أم لم يشأ، لان فعالية قوانين التطور حتمية ولا تتوقف على رغبات أحد، والماضي يمتد تلقائيا في المستقبل اذا لم يتدخل الناس ايجابيا لتغييره ، ويوم أن يصبح للصهاينة أمة في فلسطين لن يستطيع أحد ان ينتزعها منهم مرة أخرى . لعل هذا أن يكون واضحا. فانه يحدد لنا التزامات عينية داخل الارض المغتصبة وخارجها حتى قبل أن تزول دولة اسرائيل. هذا ما نقوله نحن .
فماذا تقول الصهيونية عن نفسها؟.
اذا كنا سنعود الى الاساطير الخرافية مرة أخرى فلعل هذا لا يصدم المعجبين ” بالتقدم الحضاري ” لاسرائيل ذلك لاننا لا نسند الى الصهاينة غير ما يقولون . ولا نستند من بين ما يقولون الا الى الصهاينة العلماء، الماديين، الذين لا نظن انهم يرعون شرائع الدين اليهودي . انهم – كما لا بد نتوقع- لا يقولون ان الصهيونية حركة عنصرية قبلية متخلفة. بل يقولون انها حركة قومية. والصهيونية هي ذاتها القومية. اما الامة فهم اليهود في كل انحاء الارض ومن جميع الاجناس والالوان . ثم انهم لا ينكرون ان ليس لليهود لغة واحدة وانهم لم يعيشوا منذ عشرات القرون على ارض واحدة، ولم يشتركوا في بناء حضاري واحد. كل هذا لا ينكرونه. ولكنه عندهم غير لازم لتكون الامة امة. فالنظرية الصهيونية في الامة والقومية تقوم على أساس ان وحدة الثقافة، والتاريخ الثقافي هو المميز الاساسي للأمة. فاذا قيل ان اليهود المثقفين قد شاركوا في كل ثقافات العالم، وكل منهم اسم بقدر ما استطاع في ثقافة مجتمعه الذي يعيش فيه، قالوا ان العبرة بالاتصال التاريخي للثقافة وهذا متوافر في الثقافة الدينية لليهود منذ الشتات الى الان، فهم- اذن- امة. هل هي امة ممتازة؟.. لا. ان تعبير ” شعب الله المختار” هو للتمييز وليس للامتياز. فليكن. فليس لكل هذا من آثار فيما يعنينا في هذا الحديث . اذ ان الذي يعنينا هو عنصر الارض . ان كنتم أمة الان ، وكنتم

4– الحل القومي : –
استرداد الأرض العربية للشعب العربي . كل الأرض العربية لكل الشعب العربي . أما كيف فهذا سؤال يتصل بالاسلوب وسنعرف الاجابة عليه فيما بعد.- المهم هنا أن ندرك باكبر قدر من اليقين بان حل مشكلة فلسطين هو استرداد الارض المغتصبة من قبضة الصهيونية التي تسميها “اسرائيل ” واعادتها الى الشعب العربي . لو بقيت دولة للصهيونية ولو في ” تل ابيب ” وحدها فإن المعركة لن تكون قد انتهت لأن منظمة القوى المعاد ية ما تزال هناك في اوربا والولايات المتحدة واطراف كثيرة من الارض . ومن تل ابيب ستعود فتنقض . هذا بالاضافة الى أن كل ذرة تراب من الارض العربية هي ملك للشعب العربي لا بد من ان تسترد . وعندما تسترد الارض ، كل الارض ، ستحل مشكلتنا ومشكلة اليهود معا . نسترد نحن أرضنا ونضعهم هم أمام الحل الصحيح لمشكلتهم . ولا شك انهم عندما يعرفون بالرغم من كل شيء أن الصهيونية حركة فاشلة سيعيشون في مجتمعاتهم ويندمجون فيها ويتطورون . وهكذا يكون استرداد الارض العربية هو الحل التقدمي الصحيح لمشكلة فلسطين المغتصبة ومشكلة اليهود الهاربين من مجتمعاتهم .
أليس هذا تبسيطا للامور؟
ان في اسرائيل جيل سابق على قيام الدولة لم يعرف له وطنا الا فلسطين . وفي اسرائيل جيل ولد بعد قيام الدولة لا يعرف له مجتمعا الا اسرائيل . فما الذي سيكون من أمر هؤلاء فيما لو استردت الارض المغتصبة؟… كثيرون يشغلون انفسهم بالاجابة على هذا السؤال كما لو كان سؤالا جادا. وينفعلون في الحديث ويسودون الكتب ويقترحون ” فلسطين الديمقراطية ” كما لو كانت الصهيونية
قد انهزمت ودولتها قد زالت ، وعاد الاباء الى اوطانهم وبقيت مشكلة الجيل الجديد من ابنائهم؟.. ومع ذلك فعلينا ان نجيب. فلعل للسؤال وجها جادا نراه من الموقف القومي ولا يراه السائلون. بمجرد أن نكون قوميين نتطهر تماما، فكريا وحركيا، من خطيئة التمييز العنصري ونسترد كامل انسانيتنا، ويعودإلينا الوضوح في رؤية المشكلات ، أية مشكلات، وحلولها الصحيحة. عندئذ سننسى ” حتما ” كلمة يهودي ونتحرر نحن أولا من رد فعل عنصري تحاول أن توقعنا في شباكه المضللة الحركة الصهيونية فتجرنا من حيث لا ندري الى منطلقاتها ومواقفها. لو فعلنا لرأينا ، الحل القومي واضحا صريحا . فالقومية لا تقبل الاستقلال الاقليمي لفلسطين عن الامة العربية. وفلسطين الاقليمية فاشلة من الان في حل مشكلة الاقامة فيها . فهي ” دويلة ” يواجه فيها مليونان من المجنى عليهم مليونين من الجناة حول جسم الجريمة : الدار المهجورة وقد سكنت والارض المغتصبة وقد زرعت، والاموال المنهوبة وقد اصبحت اموال الاخرين . ثم يقال لهم لا تذكروا ما كان وعيشوا “ديمقراطيين ” كأن الديمقراطية تعويذة سحرية تطهر النفوس بأمر من ا لقائلين 0ا لقومية لا تقبل الا دولة الوحدة ودولة الوحدة أكثر رحابة من فلسطين . وفي دولة الوحدة مكان لكل الذين يريدون أن يعيشوا آمنين . وسيكون من شأن دولة الوحدة أن تعترف بالمواطنة أو بالاقامة لمن يريد أن يقيم في رحابها ممن لا ينتمون اليها أصلا كما تفعل كل الدول بدون أن يكون في هذا مساس بسيادتها. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فان للأمة العربية أبناء من اليهود في فلسطين وفي كثير من الارض. اولئك العرب اليهود. انهم لسبب أو لاخر . يحملون الهوية الاسرائيلية أو هويات أخرى اجنبية. وهم لسبب أو لآخر قد انتقلوا الى فلسطين أو غادروا الوطن العربي الى اماكن أخرى وبعضهم مجندون في المنظمة الصهيونية أو في قوات اسرائيل المسلحة . كل هؤلاء عرب بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية. وأسلاف كل هؤلاء عاشوا عربا واسهموا بما استطاعوا في تطوير أمتهم العربية. ولكل هؤلاء حق قومي في أن يقيموا في رحاب أمتهم وعلى وطنهم العربي ” المشترك ” في فلسطين أو في غير فلسطين . ولكل هؤلاء حق في أن تكون دولة الوحدة دولتهم القومية التي تحميهم ضد التعصب وتوفر لهم الأمن واسباب التقدم الاجتماعي . وكل هؤلاء مطالبون بأن يعبروا عن ولائهم لأمتهم وان يرتفعوا بوعيهم إلى مستوى المسؤولية القومية وأن يعرفوا أن أرض فلسطين هي جزء من وطنهم العربي الكبير وأن لهم حق الإقامة فيها سواء كانوا فيها من قبل أو كانوا وافدين إليها من أقطار عربية أخرى وأن من حقهم أن يعودوا إليها أو إلى أي مكان في الوطن العربي ان كانوا قد غادروا أرضهم العربية . بل انهم في القومية سواء مع اخوتهم العرب الذين اكرهوا على مغادرة فلسطين لا فضل لأحد منهم علىالآخر إلا بقدر ما يجسد فكراً ومسلكاً ولاءه القومي لأمته العربية . حتى الذين تورطوا منهم فوجدوا أنفسهم في مواقع الخيانة لأمتهم . ويقتلون أخوتهم العرب طاعة لسادتهم الصهاينة ، فإن جزاءهم سيكون معادلاً لما كان لهم من حرية الاختيار وعلى ما يكون لهم من موقف يختارونه في الصراع العربي ضد الصهيونية المغتصبة. وقد تغفر لهم أمتهم كل ما تقدم لو حرروا أنفسهم من سيطرة الغاصبين الاجانب لجزء من وطنهم العربي فاسهموا في استرداده وتحريره . ولكنهم في كل الإحوال لن يكرهوا على مغادرة الارض العربية ولن يفتقدوا رعاية دولة الوحدة .
هكذا نرى الحل من الموقف القومي . من موقف تتسق صلابته وانسانيته مع انتمائنا إلى أمة عريقة ذات قيم حضارية لا يمكن أن يتدنى أبناؤها إلى القيم القبلية التي تجسدها الصهيونية . اننا أمة وهم مجتمع قبلي فلا ينبغي لنا أن نفهم المشكلات كما يفهمون أو أن نحلها كما يريدون أو أن تكون مواقفنا ردود أفعال لمواقفهم . اننا ، باسم القومية العربية ، نصر على معاملة اليهود العرب معاملة عادلة وطنهم العربي وما على الامم الاخرى الا أن توفي بمسؤولياتها فتحمي ابناءها اليهود من التعصب ضد السامية.
ان نظريتنا القومية، اذن، تحملنا مسؤولية تحرير العرب اليهود من القهر العنصري المفروض عليهم في أرض فلسطين . ومسؤولية عودة اليهود العرب الذين غادروا وطنهم العربي وتعويضهم عن أي عسف لم يحترم انتماءهم القومي للامة العربية.
أما الذين خانوا اوطانهم فهجروها وجاءوا غزاة للوطن العربي فلا مكان لهم في الارض العربية. وعليهم ان يلحقوا بأممهم حيث كانوا. ولسنا مطالبين أن ندفع لهم ثمن الخيانة أو ان نقدم لهم مكافأة على العدوان . لسنا مسؤولين على أي وجه عن ارضاء التعصب الاوربي ضد اليهود أو التعصب الصهيوني ضد البشر جميعا، بأن نقيم للصهيونية دولة في ارضنا سواء في فلسطين أو حتى في الربع الخراب من الصحراء القاحلة. لا أحد يملك هذا ولا أحد يستطيعه.
ومشكلة فلسطين هي النموذج لكل مشكلة اغتصاب ارض عربية ، أيا كان المغتصبون

تنويه الاعلام المركزي : القائمون على تشغيل وسائل التواصل الاجتماعي لا يخجلون من خضوعهم لارادة الاحتلال الصهيوني وتعليماته التي تجعلهم ليسوا أكثر من أداة رقيب احتلالي عسكري للكيان الصهيوني الاحتلالي والعنصري (الابرتهايد) تويتر بعد يوتيوب يوقف حساب التيار والحجة ذاتها


الموقع الرسمي - الاعلام المركزي - مفوضية الشؤون االاعلامية - قوّات العاصفة - تيار المقاومةوالتحرير

3 من الزوار الآن